ضربة للفلسطينيين في العراق

05 مارس 2020
+ الخط -
تعدّدت الضربات التي تلقّاها الفلسطينيون المقيمون في العراق منذ العام 2003، جديدها حرمان مجموعة منهم من مخصصات سكن، كانوا يعتمدون عليها لدفع إيجارات مساكنهم. فقد قضى القرار بحرمان حوالي ثلاثمائة أسرة من معونات السكن، مستهدفا الشريحة الأكثر فقرا وعوزا بين من تبقّى أصلا من الفلسطينيين في العراق. وتم تبرير القرار بأنه جاء بسبب الصعوبات المالية التي تواجهها مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. ولم يحظ الخبر باهتمام كثير، لا بل ولم تحظَ الضربات السابقة التي استهدفت فلسطينيي العراق بالاهتمام الذي تستحقه. وعلى الرغم من معاناة العراقيين الطويلة، وحجم العنف والدمار الذي تعرّض، ويتعرض، له المجتمع العراقي، فإن مأساة الفلسطينيين على هامش ذلك تستدعي وقفة خاصة. 
لم يكن عدد الفلسطينيين المقيمين في العراق كبيرا، مقارنةً بدول عربية أخرى مجاورة، لكنه انخفض بشدة من حوالي 40 ألفا قبل الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 إلى أقل من أربعة آلاف حاليا. الأسباب معروفة، فقد تعرّضوا، في السنوات الأولى للاحتلال، لحملات عنف وقتل من مليشيات استغلت موقفهم المسالم، وعدم امتلاكهم قوى مسلحة تدافع عنهم في بلدٍ انهارت فيه الدولة. كانت التهمة جاهزة ضدهم طبعا، وهي التعاطف مع نظام حكم الرئيس العراقي السابق، صدام حسين. ردد المجرمون والشوفينيون تلك الاتهامات، تبريرا لأفعالهم، من غير اعتبار لحقيقة أن الغالبية الساحقة من فلسطينيي العراق نأت بنفسها، وطوال تاريخها، عن السياسة العراقية الداخلية، لا بل وحتى لم تنشط فيما بينهم التنظيمات الفلسطينية بالدرجة نفسها التي نشطت فيها في دول عربية أخرى. استهدف العنف والقتل العراقيين أيضا كما هو معلوم، فهرب كثيرون منهم طالبين اللجوء في سورية والأردن، وأبعد من ذلك طبعا. ولكن أبواب تلك الدول العربية أغلقت أمام الفلسطينيين، فبقيت مجموعة كبيرة منهم عالقة مدة طويلة في الصحراء على الحدود، حتى تكفلت دول بعيدة جدا، مثل دول في أميركا اللاتينية وأيسلندا بمنحهم حق اللجوء.
أما اليوم، فتقول القوى المسلحة المدعومة من إيران، والتي تسيطر على العراق، إنها تعادي 
إسرائيل، بل ربط بعض من أبرز قادة المليشيات العراقيين التظاهرات المطالبة بالإصلاح وإنهاء الفساد والطائفية في العراق بأنها مؤامرة تقف وراءها إسرائيل. يعرف قادة تلك الجماعات الجاذبية الكبيرة للقضية الفلسطينية، ولذلك انضموا، وبقوة، لطابور طويل من المتاجرين بالقضية الفلسطينية، شمل أنظمة وأحزابا وأفرادا حتى. لكن الامتحان كان دائما يأتي عندما تتعلق الأمور بحقوق الإنسان الفلسطيني الذي يتاجر المتاجرون بقضية وطنه. ففي العراق، كانت القوى والمليشيات نفسها التي تتحدث الآن عن عدائها لإسرائيل، ومواجهتها المزعومة معها، هي من استهدف الفلسطينيين وقتلهم في العراق، أو جرى ذلك تحت نظر تلك الجماعات ومباركته، فحي البلديات مثلا الذي يضم المجمع السكني المعروف الذي كان أكبر تجمّع للفلسطينيين في العراق كان دوما خاضعا لسيطرة المليشيات بعد عام 2003.
أصبحت تلك القوى الآن مسيطرة على مجلس النواب العراقي، لتضيف ذلك إلى سيطرتها على الوضع الميداني في عموم العراق، عدا إقليم كردستان. وإذا كانت أعوام قتل فلسطينيي العراق قد انتهت بتقليص عددهم من أربعين ألفا قبل الاحتلال إلى عشر ذلك الرقم الآن، فقد بدأت، في السنوات الأخيرة، إجراءات تستهدف خنق المتبقين اقتصادياً، بحرمانهم من الوسائل الاقتصادية التي لا يستقيم العيش إلا بها. وقد كان الإجراء الأكثر قسوة هو حرمان الفلسطينيين من حق استلام المواد الغذائية والأساسية بسعر مدعوم، أو ما يعرف في العراق بالحصة التموينية، وأيضا حرمانهم من التعليم المجاني، ومن العمل في القطاع الحكومي، ومن حقوق التقاعد. تم ذلك بفعل قانون الجنسية والإقامة الذي أصدره مجلس النواب العراقي قبل أكثر من عامين، بموافقة غالبية الكتل الشيعية والسنية والكردية، حينما حرم الفلسطينيين من وضعهم القانوني الذي كان مساويا للعراقيين، وقد تم ذلك عن طريق إلغاء القانون رقم 202 الذي صدر عام 2001، وساوى الفلسطينيين بالعراقيين في كل الحقوق، عدا حق المواطنة.
ليلاحظ هنا أن تلك المساواة المفترضة في العهد السابق لم تصدر بقانون إلا في نهايات حكم 
صدام حسين، وتضمّن حينذاك فقرة غريبة نوعا ما، تهدد الموظف الذي لا يلتزم بإعطاء الفلسطينيين حقوقهم بعقوبات صارمة، مع أن من المفترض أن يكون ذلك بديهيا، لكن تلك الفقرة توضح حجم معاناة الفلسطينيين، حتى في تلك الأيام، مع الاجتهادات والتحيزات التي تصدر من الحاقدين على وجودهم، حتى في ظل أكثر الأنظمة صرامة وقوة.
تظهر نظرة منصفة سريعة إلى تاريخ الفلسطينيين في العراق قبل احتلاله أنهم لم يشاركوا العراقيين إلا بؤسهم ومعاناتهم مع الحروب، ومع سنوات الحصار الاقتصادي الطويلة المريرة. لقد عملوا، منذ مجيئهم إلى العراق، ومعظمهم جاء إليه بعد النكبة الأولى عام 1948 في قطاعات التعليم وغيره، فخدموا المجتمع وأجياله. أما في الثقافة، فقد كان جبرا إبراهيم جبرا عرّابا حقيقيا للثقافة في العراق، يترجم شكسبير وفولكنر، ويكتب النقد عنهما بقوة كتابته نفسها عن شعر الجواهري أو عن الأعمال التشكيلية لكبار الفنانين العراقيين الذين دعمهم دائما، وساهم في تقدمهم وانتشارهم. كذلك ترك خالد علي مصطفى تراثا شعريا ونقديا وأكاديميا مشهودا. وكان روحي الخماش موسيقارا، تخرّجت على يده أجيال من عازفي العود ودارسي الموسيقى الشرقية. أما محمد حسين عبد الرحيم فقد وضع بصمة متميزة جدا للمسرح الكوميدي العراقي. تطول القائمة، وقد تُنسى أسماء لا يجب أن تُنسى، لكن المقصد ليس التمجيد ولا المجاملة، بل التذكير بما يربط البشر من أواصر ومبادئ ومعان.
وقد تردّد، بعد صدور قرار حرمان الفلسطينيين من معونات السكن، أن بعضهم شارك في التظاهرات الاحتجاجية في ساحة التحرير في بغداد. أتمنى أن ذلك حصل فعلا، فإذا كان الوجود الفلسطيني في العراق يكاد ينقرض، بفعل ما أقدمت وتقدم عليه القوى المسيطرة على العراق، فمن الجدير بالتظاهرات العراقية أن تتسع لتضم شيئا من معاناة الفلسطينيين، فقضية الثورة ضد الظلم واحدة، ونضال مستمر من أجل الحقوق التي لا تموت.
4B109260-05A6-4A15-9F69-C3DBE398FBE4
4B109260-05A6-4A15-9F69-C3DBE398FBE4
رافد جبوري

كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.

رافد جبوري