المنطقة العربية بانتظار وطنيات جديدة

08 يوليو 2019
+ الخط -
السيولة والتعقيد الذي شهدته وتشهده دول المنطقة العربية، يجعلان التقديرات المستقبلية محفوفة بمخاطر كثيرة، فالوضع السائل شديد التحرّك، وعصيّ على التوقع، وخاصة أن هذا الوضع المتحرك أطاح سابقاً كل التوقعات التي تم تقديرها في السنوات الثماني المنصرمة. هذا يجب ألا يمنع محاولات جديدة لقراءة المستقبل، من دون الكتابة عن المستقبل، لا يمكن الوصول إليه بطريقة أفضل. التقديرات المختلفة تجعل التعامل مع المستقبل أكثر جدوى، وخصوصاً عندما تأخذ التقديرات بالفرص والمخاطر. وبذلك تقترب صناعة المستقبل من حقيقتها، وخصوصاً مع قراءة موضوعية للمتغيرات، لا على قراءة رغبوية، كالتي سادت قبل الثورات العربية، عند السلطات وعند المعارضات العربية.
شكلت الثورات العربية، بكل ما لها وما عليها، لحظة تحول جذري في العالم العربي، بصرف النظر عن النتائج التي وصلت إليها، على الرغم من أن تفاعلات الثورات مستمرة. ويمكن القول إنه بات من المستحيل أن تعيش دول المنطقة بالطريقة السابقة، فقد سقطت الأنظمة التي سادت في المنطقة، ليس بمعنى خروجها من السلطة، بل بمعنى انتهاء أي دور تاريخي لها، وسقوط كل شرعية ممكنة، وبذلك استمرار هذه السلطة سيكون بالقوة العارية، وهذه وحدها لا تصلح حتى لصناعة أنظمة ديكتاتورية، لأنه حتى هذه الأنظمة الرديئة تحتاج لنوع من الشرعية باتت تفتقده.
نشهد قطيعةً مع التاريخ القريب والبعيد، هذا أقل ما يُقال في البركان المتفجر في البلدان العربية. اكتشف العربي قدرته على التغيير، على الرغم من تعثر العملية، لم تستسلم الشعوب لهذا التعثر، وما زالت الثورات العربية تلهم الشعوب. التعثر الذي شهدته هذه الثورات لم يمنع 
انتقالها إلى دول أخرى، والدرس السوداني ماثلاً أمامنا، فالحلم بالتغيير ما زال يُلهم المنطقة. واليوم، تدافع الشعوب عن حقها في صناعة تاريخها وامتلاك حياتها، قد تتعثر هنا أو هناك، ولكن لا بد من السير على هذا الطريق الذي لا عودة منه، طريق واضح، على الرغم من صعوبته وثمنه الباهظ. لقد كشفت الثورات ليس قدرة الشعوب على التغيير فحسب، بل القدرة على إطاحة الطغيان والاستبداد الذي ظهر كأنه مؤبد في بلدان المنطقة.
واحد من التغيرات الحاسمة التي كرّستها الثورات العربية، أن الفعل التغييري العربي يكون في الأوطان القُطرية، وتحت شعاراتٍ تلحظ حاجات هذه الأوطان، وتستهدف الاستبداد مباشرة، فهي لا تذهب بعيداً في شعاراتٍ قوميةٍ لتغطي عجزاً ذاتياً وطنياً، شعاراتٍ غير قابلة للتحقيق، في الوقت الذي تمت مصادرة الأوطان بذريعة هذه الشعارات الكبيرة، وتبيّن أنها شعارات فارغة من أي معنى، لأنها تتحدّث عن القضايا، وتتجاهل البشر أنفسهم أصحاب القضايا.
بمعنى آخر، التغيير الحاسم يجري في الإطار الوطني. نحن عرب هذا صحيح، ولكننا قبل أن نكون كذلك، نحن أبناء الأوطان الصغيرة، نحن تونسيون ويمنيون ومصريون ولبنانيون وفلسطينيون وليبيون وسوريون وسودانيون.. إلخ. هل هذا اكتشاف جديد؟ نعم، هذا ما قالته الثورات العربية، إنه اكتشاف جديد. هناك وطنيات جديدة تولد في المنطقة، ليس بالضد مع الجامع أو الجوامع العربية، ولكن الجامع العربي، كما ظهر في ظل سلطات الاستبداد، لا يحلّ مشكلات الأوطان، هو أحياناً يخفيها، ويحاول كنسها تحت السجادة. لم تكن شعارات الثورات العربية التي انطلقت من تونس قوميةً، كالتي شهدتها المنطقة في الخمسينات، تلك التي أطلقتها انقلابات عسكرية أطلقت على نفسها اسم "ثورات". ما نشهده اليوم هو الثورات الحقيقية، 
فالثورات هي أن تقرّر الجماهير أن تنزل إلى الشارع، لتغير مسار التاريخ وإخراجه من الاستنقاع الذي أصاب مجتمعاتها. هذه هي الثورات، أرادت أوطاناً يستحق سكانها أن يكونوا بشراً محترمين، لا قطيعاً يُقاد بالعنف العاري، بشراً يحدّدون طريقهم ومستقبلهم بإرادتهم الحرّة، لا أن يكونوا جزءاً من قطيعٍ يُقاد إلى حيث لا يريدون. إنهم ببساطة يريدون أن يكونوا ما يشاؤون، لا ما يشاء غيرُهم. عملت الثورات العربية على إعادة الأوطان إلى أصحابها، أو بالأصح يستعيدها أصحابها من الذين حكموهم بالحديد والنار عقوداً، انتكست وهذا صحيح، لكنها حفرت عميقاً في التاريخ وفي اللحظة القائمة. من حق الشعوب ترتيب أوطانها بما يتناسب مع كونهم بشراً قادرين على صناعة حياتهم، فهم يدركون أن الاستبداد لم يحلّ مشكلاتهم على مدى عقود، ولن يحلّها في المستقبل. وعندما يعود ليطل برأسه من جديد، لا يعني أنه بات يملك شرعية جديدة، فشرعية الاستبداد ذهبت إلى غير رجعة، حتى ولو احتاج احتضار الاستبداد لسنوات.
بات الخلاص من الاستبداد الذي أعاق هذه البلدان ضرورة ملحّة. ولذلك من حق الشعوب العيش في أوطانٍ ملموسةٍ، يشعرون بأنها أوطانهم، وفي الإطار الوطني سيحسم مستقبل الشعوب. لذلك لم تحمل الثورات العربية شعاراتٍ قومية، تماثل التي عرفتها المنطقة في الخمسينيات والستينيات، حيث ذهب الاستعمار، وبقيت شعارات التخلص منه تثقل على كاهل الشعوب العربية. رُفعت شعارات الصراع مع إسرائيل، وخسرنا المعارك معها واحدة تلو الأخرى، وهناك من وقّع اتفاقات سلام مع إسرائيل، وبقي يجلد شعبه بحجة الصراع العربي - الإسرائيلي. لقد تم تأجيل كل شيء في المنطقة من أجل معارك لا أحد يعرف معناها. تعفّنت 
المنطقة، وهي تنتظر ما لا يأتي، تعفّنت وشعوبها تنتظر العيش مثل باقي شعوب العالم، وكان كل ما تحصل عليه مزيداً من الإذلال تحت شعارات كبيرة. طفح الكيل، وعرفت الشعوب في المنطقة أن الانتظار لا ينتج سوى مزيدٍ من الإذلال وخسارة مزيد من الحقوق، ولأنه لا يمكن خوض المعارك الكبيرة بدون بناء الأوطان التي لا تُبنى إلا من الحي الصغير إلى المدينة، من رصيف الشارع حتى قبة البرلمان. من يبني هذه الأوطان هم البشر الذين يشكلون الأساس الأول والأخير لكل وطن، كبر أم صغر.
لن تقضي جرائم الاستبداد على الحلم بالتغيير، بل على العكس، تؤكد هذه الجرائم ضرورة الخلاص من الاستبداد لألف سبب وسبب. وفي سياق هذا الخلاص، ستولد وطنيات جديدة في البلدان العربية، مشغولة في حل القضايا الملحّة لهذه البلدان، قضايا الإنسان.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.