الأردن.. الانقلاب على الجمهور

17 مايو 2019
+ الخط -
تفاءل الأردنيون، في أحاديثهم التي سبقت التعديل الوزاري الثالث على الحكومة، بأنّه قد يسمح لرئيس الحكومة عمر الرزاز باختيار وجوه إصلاحية، تشيع الأمل بجدية العمل على الإصلاح، أو تجعله أكثر استقلالاً في خياراته التي كان يقول دوماً إنه وحده يتحمل المسؤولية بشأنها. ولكن ما أن خرج التعديل، وأقسم الوزراء الثمانية الجدد اليمين، حتى خرجت الأصوات المنتقدة له، وقد عاد فيه سلامة حماد، وزيرا للداخلية، وعيّن محمد العسعس، وهو مستشار سابق للملك للشؤون الاقتصادية، وزيراً للتخطيط والتعاون الدولي ووزير دولة للشؤون الاقتصادية. وبغض النظر عن مقولة صواب الاختيارات أو عدمها، جاءت أكثر الانتقادات على خيار الرزاز لوزير الداخلية الجديد، وإقالة وزير الصحة غازي الزبن، الذي سعى جدّياً إلى فرض السعر الحقيقي للأدوية في الصيدليات التي تباع فيها الأدوية بأسعار مرتفعة في الأردن، مقارنة بسعرها المنخفض في الدول المجاورة. أما عودة الوزير سلامة حماد، المعروف بشدّته، والذي خرج من حكومة هاني الملقي في أعقاب أحداث مدينة الكرك (ديسمبر/كانون الأول 2016) وحينها طالب مجلس النواب بجلسة طرح ثقة عليه، فاعتبرت عودة محمولة برسالة ضد الحراك الشعبي، وكان الرجل قد نالته انتقادات كبيرة من ناشطين، بسبب سياسته تجاه المعتصمين في لواء ذيبان قبل عامين.
والثابت أنّ الرزاز قد أخرج تعديلاً حكومياً لم يُرض الجميع، مضافاً إليه الجدل القانوني في ما يخص إنشاء وزارتين جديدتين في التعديل، وإلغاء وزارات قائمة، ما أشاع سجالا قانونيا بشأن مصير وزارتي الاتصالات والبلديات اللتين استبدلتا بوزارة الاقتصاد الرقمي والريادة ووزارة الإدارة المحلية. فلجأت الحكومة إلى إعداد أربعة أنظمة لمعالجة الوضع القانوني الذي ترتب على التعديل، فيما قال خبراء إن "ما أنشئ بقانون لا يُلغى إلا بقانون". وفي المقابل، بدأ الحراك الشعبي يتململ وبسقوفٍ عالية، ويرى أن الحكومة لا تسعى إلى التهدئة، وأن مجيء سلامة حماد وزيرا للداخلية رسالة غير إيجابية تجاه الحريات، وهذا ما ألمحت إليه الحركة الإسلامية أيضاً، ولكن الأمور لا يُحكم عليها إلا مع اختبار عودة الحراك بكثافة، وهو أمرٌ لم يحدث بعد.
وباعتبار أن السياسة في الأردن لا تصنعها الحكومات وحدها، إلا أن تعثّر الإصلاح وتراجع
 ثقة الناس في الحكومات واتساع فجوة الثقة أمر لا تصنعه الإرادة الإلهية، بل هو نتيجة الأخطاء المتكرّرة، والتردّد في التغيير، وتراكم الفشل، وغياب معايير حقيقية لخروج القادة من مواقعهم.
وقد سبق حملة الانتقاد التي رافقت التعديل الوزاري الثالث تعيين مدير مخابرات جديد، وتغييرات في الديوان الملكي. ويفسّر مراقبون هذه التغييرات لمصلحة حكومة عمر الرزاز، كي تعمل بأريحيةٍ أفضل بعيدا عن صراع القوى، وهي التي يتوقع أن تواجه بعد رمضان مجلس نواب غاضباً تفاعل سلبا مع التعديل الثالث. وفي ثنايا العلاقة بين البرلمان والحكومة، هناك موضوع اتفاقية الغاز مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي يرفضها النواب.
ويبقى السؤال في ظل التعقيدات المحيطة بالأردن عن طريقة الخروج، والجهة التي يمكن أن يلجها الأردن لتغيير مسار اقتصاده المتدهور. وهذه الجهة يراها نقيب المقاولين، أحمد اليعقوب، العلاقة الأردنية مع العراق، ويعتبرها فرصةً وملاذا للاقتصاد الأردني. وفي إطار إدارة الأزمة المحلية، وانغلاق مسار التنمية السياسية، كان الانفتاح على الإسلاميين من أهم مؤشرات المشهد السياسي الأردني أخيرا، عبر إشاراتٍ صدرت إلى جماعة الإخوان المسلمين بالتقارب مع الحكم والحكومة، منها الإفراج عن معتقلي رأي منهم، والتعزية الرسمية الكبيرة في وفاة المراقب العام الأسبق، عبد اللطيف عربيات، وقبل ذلك لقاء الملك بكتلة الإصلاح التي تمثلهم في البرلمان.
ويجري هذا كله أيضا في ظل سعي الحكومة إلى تفعيل عمل المؤسسات الشبابية، وإحداث 
مراجعاتٍ في التعليم العالي، لكن كلّ تلك الإجراءات التي تهدف إلى تأمين مسار قطار الحكومة لعام مقبل تبقى غير مضمونة النهايات، في حال دخلت الحكومة في أزمةٍ مع الشارع المحتقن، والرافض أي إجراءات قمعية ضد الحراك.
الدولة الأردنية اليوم أمام اختبار الراهن الذي يشهد فيه المجتمع رغبةً جامحة للانفكاك من الخطاب التقليدي للحكومات، والذي لم يقدّم أي تغيير ملموس، بالإضافة إلى محاولة بناء علاقةٍ جديدةٍ تتجاوز التحديات التي اعتادت الحكومات على التلويح بها دوماً من دون أن تغادرها. وهنا يتقدّم المجتمع نحو المشهد العام، ويقدّم رؤيته وقياداته بديلا اجتماعيا عبر حركاتٍ اجتماعية، سيكون لها الأثر الكبير مستقبلاً، ذلك أن هناك شعورا عاماً ينمو، مفاده أن الحكومة انقلبت على جمهورها الذي رحب وتفاءل بمجيء رئيسها الرزاز قبل عام، بوصفة منقذاً للبلد من ظرفٍ صعب.
في مقابل الحالة غير المتفائلة، اجتهد الرزاز في إيجاد حالةٍ تواصلية مع الجمهور، بالمشاركة في مبادراتٍ شبابية، والتأكيد على الشراكة معهم، والرهان عليهم، وهذا قد يكون مسرباً فاعلاً في الحد من التوتر العام، وفي تقليل أثر الغضب الذي يرفع لواءه أهل الحراك، حيث ما زالت للرجل فرصة، في اعتقاد كثيرين، بإيجاد حالة من الأمل لدى طبقةٍ عريضةٍ في المجتمع من الشباب الآمل به خيراً، وفي ظل تعقيدات الإقليم والجدل بشأن صفقة القرن. غير أن الجمهور الذي يتحرّك بحدّة عالية ووعي كبير في الأردن لا يطلب المستحيل، والقرارات الحكومية وسياسات التأثير المعمول بها تحتاج أيضا إلى المراجعة، للخروج بالبلاد من حالة الإحباط العام.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.