عن ملوكٍ حكموا العراق

15 مايو 2019
+ الخط -
تظلّ "الجمهورية" هدفاً حلواً ومثيراً في ظل النظام الملكي. هكذا كان حالنا قي العراق، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، إذ كان طموح العراقيين أن يقيموا نظاماً جمهورياً ديمقراطياً، يحقق العدل والحرية والرفاه، وكان في أذهانهم سحر جمهورية أفلاطون التي قرأوا عنها في الكتب، لكنهم اكتشفوا، وإنْ بعد فوات الأوان، أن "الجمهورية" تفقد سحرها بمجرّد أن تصبح حقيقةً واقعةً ماثلةً أمامك، وأن في بعض "الجمهوريات" ما يجعلك تعيد النظر في ما كنت تفكّر فيه وتأمل، وأن في بعض "الملكيات" ما يضعك أمام حلم العودة إلى ما كان، لكنك تكتشف أن ليس بإمكانك أن تعيد إلى "بكرة" الزمن خيوطها بعد أن تقطعت!
في هذا المجال، ثمة وقائع عراقية مستنفرة هذه الأيام، تستدعي قدرا من التأمل والإمعان، ليس في دلالاتها وحسب، إنما في خلفياتها وجذورها، وفي مآلاتها المقبلة، ووقائع أخرى موثقة ومكتوبة، تثير الذهن، وتستدعي الذاكرة، إلى درجة أنها تسقط المواطن المغلوب على أمره في هوة المقارنة بين ما يحدث اليوم أمام عينيه وما كان يحدث في عهود الملوك الذين حكموا منذ تأسيس المملكة العراقية وحتى وثوب العسكرتاريا والأحزاب الشمولية إلى السلطة، فيجد البون شاسعا، ويدرك أن كفّة الميزان تميل دوما لصالح العهود المندثرة، ويرى أن النخب السياسية آنذاك كانت أكثر صلاحا ونزاهة وخبرة وإخلاصا للبلد، ولأهله من الذين قدّر لهم أن يحكموا البلاد فيما بعد، فيسوموها الدمار والهوان والمعاناة المقيمة.
في أخبار بغداد شواهد كثيرة على ما نقوله هنا، عراقيون يؤسّسون تجمعاً "ملكياً"، ويحتفلون بذكرى مولد ملك العراق الأخير، فيصل بن غازي، حفيد فيصل المؤسس، ويلقون كلاماً في مآثر الأسرة التي حكمت العراق بعد الاستقلال وقيام الدولة الوطنية، ويستذكرون المنجزات التي تحققت أكثر من ثلاثة عقود زاخرة بالأحداث والتحولات. وآخرون يقيمون معرضاً لمقتنيات الأسرة الملكية، وما استطاعوا جمعه من آثارها المادية التي سرقت أو دمرت في حينه. وفريق ثالث التفت إلى مواقع التواصل، فأنشأ صفحاتٍ تذكّر بالملوك، وتنشر صورهم، وتمجّد ذكراهم، وفريق رابع يدعو إلى النظام الملكي، بعد أن كفر بالجمهوريات العربية كلها.
غير هذا كتب باحثون أكاديميون أطاريح ودراسات عن شخصيات تلك المرحلة من تاريخ 
العراق، أزاحوا عبرها النقاب عن الحملة المضللة التي كان نظمها مرتزقة العهود اللاحقة، للنيْل من مكانة تلك الشخصيات ومناقبيتها ومواقفها من القضايا العامة، وسعى أولئك الباحثون إلى إنصافها ووضعها في المكان الصحيح.
يلمس المرء في إطلاق فعالياتٍ ونشاطاتٍ كهذه أكثر من دلالة، خصوصاً أن من بين من تبناها وشارك فيها شباباً من أبناء الجمهوريات التي أعقبت ذاك الزمان الغابر، ولم يكونوا من شهود حقبة الملوك تلك. وقطعا، فإنهم لم يولدوا فيها، ما الذي دعاهم إذن إلى استعادتها، وقد طوتها حقب ومتغيرات؟
ربما كان ذلك نتيجة استيعابهم واقع الحال الماثل، وإدراكهم أن عهود العسكرتاريا والأحزاب الشمولية والحكومات الطائفية التي هيمنت على البلاد ساهمت كلها في إنتاج هذه الكومة المرعبة من الدماء والدموع والخراب المقيم، وهي التي أوصلتنا، في لحظة فارقة ومأزومة، إلى الاحتلال الذي وجد الفرصة سانحة لتركيعنا وإذلالنا ونهب ثرواتنا، ووضع مصائر أهلنا في كفّة القدر.
ربما اكتشف هؤلاء الشباب أن حجم الأخطاء والخطايا التي ارتكبها الملوك في أكثر من ثلاثة عقود لا تساوي خطايا وأخطاء سنة واحدة في عهود الجمهوريات، يكفي أن نشير إلى رصد مثير لباحث عراقي، لنعرف أن كل الذين أعدموا بتهم سياسيةٍ على مدى ستة وثلاثين عاما من الحكم الملكي لم يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، في حين أن من أعدمتهم الجمهوريات اللاحقة بلغ المئات، هذا عدا الذين اغتيلوا أو غيبوا أو قتلوا سرا في ظل أجهزة الأمن والمخابرات التي شكلت دوماً "دولة عميقة"، وتلك حقيقة لا يمكن أن ينكرها أحد. هنا لا بد من تسليط الضوء على فعالياتٍ ونشاطاتٍ كهذه، ألا تشكل كلها "مرافعة" موثقة تقودنا إلى إعادة تقييم ما مرّ، وإنصاف أولئك الرجال الذين أسّسوا العراق الحديث، وجاهدوا للحصول على حقوق شعبه وسط عواصف ومعارك وتحدّيات صعبة ومتشعبة، وسعوا إلى بناء مجتمع كفاية وعدل وديمقراطية؟
إنه مجرد سؤال أتمنى ألا يغيظ عديدين من أصدقائنا الذين لا يروقهم البحث عن أوجه الحقيقة المتعدّدة، ويصرّون على أن لها وجها واحدا فقط!
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"