هناك الكثير لنتعلمه من التجربة التونسية

24 ابريل 2019
+ الخط -
اشتباكاً مع حيدر سعيد، ومولدي الأحمر، وعبداللطيف الهرماسي.
قرأت باهتمام شديد محاورات أصدقائي، حيدر سعيد، ومولدي الأحمر، وعبداللطيف الهرماسي، على صفحات "العربي الجديد"، عن النموذج التّونسي في التّعاطي مع أسئلة النّهضة العربية من عدم نموذجيته. وأدلي بدلوي هنا حول النمذجة، وأشتبك مع بعض ما جاءوا به، فما أراه نموذجياً هو ليس بالضروروة نتائج الجدل الحاصل في تونس من قضايا الميراث والمرأة وحقوق الإنسان وإنما عملية الجدل (process) في المجال العام.
لقد أتحفتنا مدارس حل النزاعات بنظريات عدة، ولكن أهمها أعمال عالم السياسة الإيرلندي كولن آيروين، ومفادها أننا نستطيع أن نحل نزاعا، فيما إذا استطعنا استحضار الأصوات الوسطية إلى المجال العام، للتنوع مع الأصوات العالية المتطرفة من طرفي النزاع، فعندما يستخدم أحد الأطراف العنف تروّج وسائل الإعلام هذا الطرف وأطروحاته، وتغيّب الأصوات الوسطية التي غالبا ما تمثل الأكثرية. طبق آيروين نظريته هذه بأن أجرى استطلاعاتٍ للرأي في أيرلندا الشمالية في الأوقات العصيبة من المفاوضات آنذاك (1999) بين الاتحاديين الموالين للتاج البريطاني الذين يعتبرون أنفسهم بريطانيين، وهم من البروتستانت في الغالب، والجمهوريين الداعين إلى الانفصال عن بريطانيا (الكاثوليكيين). وقد أدى ذلك الى إحراج النخبتين اللتين امتنعتا طويلا عن توقيع اتفاق السلام هناك. أدّعي اليوم أننا أمام مخاض تونسي حداثي، نابع من قدرته على تجاوز سنوات الاستبداد التي أجّجت سياسات الهوية، وذلك من خلال جدل سلمي له خصوصية تونسية.
وأدافع عن ذلك من خلال بحث قمت به مع عزام طعمة، بدراسة حول النقاش المحتدم الحالي بشأن المساواة في الميراث بين الرجال والنساء في تونس، وحللنا الحجج التي استخدمها مؤيدو مشروع القانون الجديد للمساواة ومعارضوه من خلال مراجعة 64 حجّة قدّمها سياسيون وأكاديميون وشخصيات إعلامية تونسية منذ أغسطس/ آب 2018. لقد تحدت دراستنا التي سترى النور قريباً كليشيهات عديدة، وفكرة تعارض الديني مع العلماني. وقد استخدمنا مفاهيم طوّرتها الفيلسوفة الأيرلندية، ميف كوك، للاستدلال (practical reasoning) الاستبدادي مقابل غير الاستبدادي، إذ تعتبر كوك أنّ عاملي "السياق" و"التاريخ" في الحجج يشكّلان المميّزات الأساسية بين الحجج الاستبدادية والحجج غير الاستبدادية.
كشف النقاش بشأن الميراث لغة مشتركة من خلال ثلاث مجموعات من الحجج المستخدمة، ولكن بدرجات متفاوته: الحجج الفقهية/ النصية، والاجتماعية، والقانونية. وبينما يستند موقف مؤيدي المساواة بين الجنسين في الإرث في المقام الأول إلى الحجج القانونية، ثم الاجتماعية، ثم الفقهية/ النصية، فإن معارضي القانون يستخدمون الحجج النصية، ثم القانونية، وأخيراً
 الاجتماعية. على سبيل المثال، ضعف الحجة الاجتماعية عند معارضي القانون واضحٌ، عندما يقولون بتقسيم جندري للعمل داخل الأسرة، إذ يتحمل الذكر العبء المالي الرئيسي للعائلة، ويساعد الوالدين والأشقاء في حالةٍ من الضيق، ولكنهم لا يدعمون قولهم هذا بأي إحصائيات أو أدلة إمبيريقية. ومع ذلك، استخدم النقاش الذي دار في تونس اللغة نفسها (تفسير النص الديني، واستخدام مقاصد الشريعة من بين أمور أخرى، ونقاش سوسيولوجي للحريات الفردية)، وليس لغة إقصائية (حجج حداثية علمانية ضد الدينية مثلاً)، ما سمح بتقليص الميول الاستبدادية، والحد من الاستقطاب من خلال الحوار. لقد شهدنا توتراتٍ أقل مما اعتدنا على ملاحظته في المجتمعات العربية، والتي وصفها خالد أبو الفضل بالتوتر بين سلطة الدين والاستبداد في الخطاب الإسلامي (authoritative and the authoritarian in Islamic discourse)، والمتمثل بالعملية التي يتم من خلالها استخدام سلطة الدين لإنتاج الحكم الاستبدادي. بدأت تتشكل لهذا الاتجاه التونسي أصداء في العالم العربي، فمثلا يرى ألكسندر كايرو، بناءً على دراسته المفتين في قطر، أن بعض الشخصيات الدينية بدأت بالاعتماد على "نصوص التراث الإسلامي وبتأكيد التزاماتها المركزية لهذه النصوص مع تبني أفكار اجتماعية حديثة والتكيف مع النظم الأخلاقية الناشئة".
أتفق مع عبداللطيف الهرماسي في مقالته "النّموذج التّونسي في التّعاطي مع أسئلة النّهضة العربية" أن الرجوع إلى النصوص والقيم المجرّدة، ديانية كانت أو علمانية، هو إشكالي، وأنا أقول أنه يعزّز الميل إلى الاستبداد. قد يؤدي السماح باختيار نظام الميراث (التعدّدية القانونية) لحلول وسطية يرضى بها الجميع، بغض النظر عما إذا كان الآخرون يتفقون معهم أم لا. هذه الترتيبات القانونية قد تمكّن من التقاضي (litigation) بطريقةٍ أكثر عدلا، وتغذّي بناء ثنائية "الحقوق مقابل الطقوس" (rights-versus-rites) في القانون والسياسة، في واقع معقد من المأسسة السياسية للدين والمأسسة الدينية للسياسة.
ليس مستغرباً أن تصبح تونس مختبراً لهذا الجدل الصحي نسبياً، وباستخدام تعبيرات الفيلسوف اللبناني، كريم صادق، في أطروحته للدكتوراه، فهي مختبر "لإطلاق العنان للتحرّر المحتمل للسياسة الإسلامية مع كبح احتمال استبدادها... وذلك بفضل الفكر الإسلامي المتميز لراشد الغنوشي". ولمعرفة درجة تطور الجدل في تونس لقانون الميراث، يمكن مقارنته مثلًا مع بيان الأزهر، إذ إنه بيان يغلق باب التفاوض مع الذين يؤيدون المساواة في الميراث، معتبرًا إيّاهم مرتدين.
في سيرورات الثورة والثورة المضادة في العالم العربي، والجدل بشأن تحديد طبيعة القوى الديمقراطية، نادراً ما يُعطَى الاهتمام بالعقل العملي للنخبة، ويكتفي التركيز على من يتبع براديغم العلمنَة. كان يُنظر إلى القوى العلمانية أنها محصّنة بشكل منهجي من أن يكون عقلها العملي استبدادياً، على عكس الحركات الإسلامية السياسية. بالطبع هذا تسطيح إيديولوجي، 
ويحتاج إلى تدقيق، لأنه يمكن العثور على توجهاتٍ استبداديةٍ لكل من هذين التكوينين النخبويين. وكما عبّر عن ذلك بوضوح محمد هاشمي، باعتبار أن تحوّل الطرح العلماني إلى "عقيدة شمولية أخرى، تتصرّف كما لو أنها تلمّ بكل قضايا الإنسان - وإن على نحو سلبي من خلال اللامبالاة- وهو ما يحوّلها إلى مرجعيةٍ ملزمة بأوامر تكاد تتصف بالإطلاقية نفسها التي تتميز بها الأوامر العقائدية الديانية".
نقاش الميراث الذي شهدناه جزء من عملية مستمرة لتحقيق مبدأ الاعتراف الاجتماعي والسياسي المتبادل، كما عند الفيلسوف الألماني، أليكس هونيت، من خلال الحوار الحاصل، يبدأ مؤيدو القانون ومعارضوه بالاعتراف باحتياجات بعضهم بعضا من دون أخذ مواقف استبعادية، تصف الآخرين بالتغريب أو الرجعية. أي تجاهل للمجموعات الدينية، رجالاً ونساءً، كصوت شرعي في النقاش العمومي يعزز سياسة الهوية. وعلى المنوال نفسه، فإن أولئك الذين يؤمنون بفضيلة الفرد والفردانية في تغيير المجتمع التونسي هم أيضًا أصوات شرعية لا يمكن اختزالها بتوصيفها بنعتها بالأجنبية، وأنها وليدة الموضة الغربية.
بدأ الحوار متأخرًا في تونس، ضمن منطقةٍ جغرافيةٍ، عُرفت بانعدام الحوار بين النخب. وإنّنا ما زلنا بعيدين عن إقامة حوار مجتمعي مستدام، كالحاصل في فرنسا مثلا، حيث من الشائع العثور على كتاب شارك في تأليفه إمام (مثل إمام بوردو طارق عوبرو) وأكاديمية (مثل أستاذة علم السياسة والنسوية ليلى بابيس). إذا حريٌّ بنا التعلم من التجربة التونسية، واستبدال اللغة الإقصائية بلغة تحاورية، وإلا فإننا سنستمر في حربنا الأهلية بين نخبٍ لن ينتصر بعضها على الآخر إلا بقوة الجنرالات العسكرية. أقول حرب نخب، لأن أصوات الوسطية هي الغالبة، والتي يجب أن نركّز عليها، كما فعل كولن آيروين في أيرلندا الشمالية.
4960A722-CE7E-400D-A647-339D9AB7AF19
ساري حنفي

أكاديمي فلسطيني، وأستاذ جامعي في علم الاجتماع، رئيس تحرير المجلة العربية لعلم الاجتماع "إضافات".