هل يضير الليبرالية السياسية الترحم على شيرين أبو عاقلة؟

20 مايو 2022
+ الخط -

لم نعهد منذ أمد طويل جنازة وطنية في فلسطين منذ وفاة الرئيس ياسر عرفات مثل التي أقيمت للشهيدة شيرين أبو عاقلة، مراسلة قناة الجزيرة التي اغتالتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في جريمة مفجعة. ولم يعكر صفو هذا الإجماع الوطني والعربي والإنساني إلا جدلٌ في مدى جواز الترحّم للشهيدة المسيحية من بعض مريدي بعض تفسيرات حرفية للنصوص الدينية الإسلامية. وتعالت أصوات المتناقشين، مستخدمين بعضهم كل التعبيرات الإقصائية من تكفير وتخوين وسبّ وشتم، واعتبار استحالة العيش المشترك مع من بدأ الجدل.
أؤكد، بداية، استيائي الشديد ممن دعا إلى عدم الترحّم للشهيدة شيرين، وعزائي الوحيد أن الاتجاهات الكبرى التقليدية (الأزهر مثلا) أو الحركات الإسلامية (حماس مثلا) أو المجتهدين الذين يؤسّسون لحجج أخلاقية قبل تبنّي الجزئيات الفقهية (معتز الخطيب مثلا) قد بينوا وضوحا جواز طلب الرحمة لكل أبناء البشر مهما كانت أديانهم، ولم يبق غير أصوات سلفية متشددة (الشيخ إياد القنيبي مثلا) الذين دعوا جهارا باختصاره للمسلمين فقط. ويتجلى ذلك في أكثر الأصوات علوا. وهناك من أخذ حلا وسطا باعتبار أن الرحمة، بوصفها خطابا تعبديا هي للمؤمن، ولكل الناس كخطاب اجتماعي.
ستحاول المقالة هنا مناقشة ما إذا كان هناك فعلا استحالة العيش المشترك مع هذه الأصوات المؤسفة، أم أن دعوات الليبرالية السياسية تكفي لموضعة هذا الجدل في إطار الخلاف بشأن مفاهيم الخيرات، والتي يستطيع أي فرد أو جماعة أن تتبنّاها، فهي يمكن أن لا تزعج كثيرا ما تقوم به الليبرالية السياسية من تأسيس لتسويغات عمومية (public reason) والاتفاق على مفهوم العدل في المجتمع.

لا يمكن للمواطنين أن يتحمّلوا مسؤولية أخلاقية لتبرير قناعاتهم السياسية بمعزلٍ عن معتقداتهم الدينية

لتوضيح المقصد هنا، أوضح، بداية، ما هي الليبرالية. سأعتمد هنا بالتحديد على مشروع الفيلسوف الأميركي، جون رولز، والذي ميز بين الليبراليتين، الشمولية والسياسية، فالأولى قيمية تُؤَسس لحرية الفرد واستقلاليته عن الجماعة والمساواة والتسامح والتعدّدية، بينما تقوم الثانية بترتيب إجراءاتٍ تمثل الأولى في استقرار المجتمع والعيش المشترك. إنها تقوم على الفصل بين مفهوم العدل بوصفه إنصافا، والتي يحتاج المجتمع الاتفاق عليها (هنا يطرح رولز مبدأيه التساوي في الحريات وتنظيم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، أي مثلا التوفيق بين الحرية الاقتصادية والمساواة الاجتماعية، وخصوصا تمكين ذوي الإمكانات الضعيفة من الاستفادة من الثروة) وتصورات الخير (حدود الحرية الجنسية مثلا). وتقوم الليبرالية السياسية على نقطتين: التعددية المعقولة، أي أن يقبل الكل التفكير في المختلف، حين يفكر في الشأن العام، أي أن تعدّد المذاهب الشمولية وتنوعها هما صيغة دائمة للمجتمع الديمقراطي. والثانية تفهم السلطة السياسية في الديمقراطية سلطة المواطنين الأحرار والمتساوين كجماعة بشرية. وسيقوم الأفراد لتأسيس لتسويغات عمومية في قضايا مشتركة ليؤسس ذلك للدستور والقوانين، وتحمي بذلك الدولة، بينما تستخدم الجماعات والأفراد تسويغات خاصة منبثقة من تصوّرات الخير في عقائدهم الشمولية. ويرى رولز عن إمكان الاتّفاق السياسيّ بواسطة اعتماد سبيل التشارك في جوانب من القيم المشتركة بين تصوّرات الخير الشاملة من خلال مفهومه الاتفاق التشاركي (overlapping consensus). وهنا ينقلنا جون رولز من العقلانية الفجّة (pure solo rationality) الى "التعقل العاقل" (search for the reasonable).
ليس مطلوبا منا تبنّي مدرسة ليبرالية معينة كالتي أسّس لها رولز ورونالد دوركين، وإنما بالتفكر كيف يمكن الانطلاق الخلاق من هذه الأفكار النيرة وتبيئتها على واقعنا. فشخصيا، وعلى اختلاف مما دعا جون رولز إليه، لا يمكن للمواطنين أن يتحمّلوا مسؤولية أخلاقية لتبرير قناعاتهم السياسية بمعزلٍ عن معتقداتهم الدينية (يجب ترجمتها الى حجج مقبولة للمواطنين وليس فقط للمؤمنين). واتفق جزئيا مع هابرماس بإقراره بمكانة الدين في المجال العام، وإن حصره بالمداولات غير الرسمية (استثناء الدين من المداولات المؤسساتية). وربما التطور الأكثر إقناعا لمشروع القيم الليبرالية قد جاء مع الفيلسوفة الإيرلندية ميف كوك، والتي أكّدت أن مشكلة المواقف الدينية ليست في أنها تعتمد مرجعية غير مشتركة مع الأغيار، بل إنّها تميل إلى أن تكون سلطوية ودوغماتية في صياغتها. لذا تمكن معالجة ذلك من خلال الاجتهاد. وتبعها سيسيل لابورد وعزمي بشارة باعتبار العلمانية كآلية (وليست قيمة بحد ذاتها) وأخضعتها لمشروع القيم الليبرالية.

المجتمع العربي يخلق ليبراليته، على الرغم من استبدادية الدولة العربية ويعالج قضاياه الشائكة بلغة التسويغات العمومية صالحةً لكل المواطنين

ولا بد أن أنوه أن للدور الرائد الذي يقوم به اليوم المركز العربي للأبحاث والسياسات ومعهد الدوحة من خلال جدل عميق حول الليبرالية الشمولية والليبرالية السياسية يقوده بعض الفلاسفة، على سبيل المثال عزمي بشارة، منير لكشو، اليزابيث كساب، رجا بهلول، مراد دياني، ورشيد بوطيب. (يمكن مثلا الاستماع لندوة مجلة تبيّن التي يصدرها المركز حول الفلسفة السياسية المعاصرة- 14-15 مايو/ أيار).
وما أفعله شخصيا كسوسيولوجي هو ربط سوسيولوجيتي بالفلسفة الأخلاقية (ودعوة باحثي العلوم الاجتماعية إلى عمل ذلك)، وفحص مدى قابلية تطبيق الليبرالية، إن كانت شمولية أو سياسية، على فهم ما يحصل اليوم من حراك معرفي بديع، تجري من خلاله مناقشة قضايا عويصة ومعقدة، كشكل التمايز بين الديني و السياسي والحد الأدنى من حيادية الدولة من مجتمعات التعدّدية الثقافية والدينية (أي مفاهيم شكل العلمانية/ الدولة المدنية المتناسبة مع مجتمعنا) أو قضايا مثل العنف الأسري والمساواة الجندرية. ذلك كله في المجال العمومي باستخدام حجج أخلاقية مستمدّة من مصادر أخلاقية مختلفة، بما فيها دينية، ولكن بدون اللجوء إلى تصنيفات ثيولوجية داخل هذا المجال (مثلا لا معنى لتقسيم الناس إلى مسلم وكافر في حجج المجال العمومي). وبوضوح، أرى أن المجتمع العربي يخلق ليبراليته، على الرغم من استبدادية الدولة العربية ويعالج قضاياه الشائكة بلغة التسويغات العمومية صالحةً لكل المواطنين. وسيبقى هناك طبعا تسويغات أخلاقية منبثقة من عقيدة شمولية، ولكن لها مجالها الدعوي للمؤمنين.

التصنيف الثنائي الحاد المانوي بين ديني وليبرالي لا يخدم إلا من يريد أن يعمّق الانقسامات في المجتمعات العربية، ولن يستفيد منها إلا المستبدّون والعسكر

إذا مهما كان استياؤنا من عدم الترحّم لمسيحيي بلادنا، وهم تاريخيا جزء من المشروع الوطني والليبرالي العربي، دعونا نركّز على التعاطف الهائل مع شيرين أبو عاقلة (من الجميع بما فيهم من لا يرغب بالترحّم عليها) لبناء عقل عمومي يرفع من القيم الليبرالية والدينية السمحة، ويبني مشروعا ديمقراطيا للمواطنة بدون تمييز، بغضّ النظر من بعض تصوّرات الخير (كطلب الرحمة للمؤمنين فقط، وهو طلب إن عبر عن شيء، فهو يعبّر عن سياسات الهوية المأزومة)، فالليبرالية السياسية (لم تتخل عن القيم الشمولية) ذات نفس طويل في تعاملها مع ثنائية العدل والخير. وليس أمامي، كليبرالي عربي، إلا أن أساهم في بناء الموافقات المشتركة، وفي الوقت نفسه أدافع عن قيم الحرية والمساواة والتسامح والتعدّدية. لا داعي هنا أن أكرّر أن هذا المشروع يحتاج صياغة وحوارات ضمن المجال التداولي العربي - الإسلامي. ولا داعي أن أكرّر هنا (أنا الذي أنادي بتجسير الهوة بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية) مرة أخرى، بعد مئات المرّات، أن الليبرالية السائدة (الرولزية وغيرها) بخطوطها العريضة لم تكن يوما مناهضة للدين. ومن لديه أمثلة استهجانية عن عدم تطابق الفكر مع العمل على سلوك الليبراليين (أفرادا أو مجتمعا أو دولة) أن يتذكّر سلوك من ينتمون لأيديولوجيات دينية (أفرادا أو مجتمعا أو دولة)، فالتصنيف الثنائي الحاد المانوي بين ديني وليبرالي لا يخدم إلا من يريد أن يعمّق الانقسامات في المجتمعات العربية، ولن يستفيد منها إلا المستبدّون والعسكر.

4960A722-CE7E-400D-A647-339D9AB7AF19
ساري حنفي

أكاديمي فلسطيني، وأستاذ جامعي في علم الاجتماع، رئيس تحرير المجلة العربية لعلم الاجتماع "إضافات".