حقوق المرأة الفلسطينية وتابوهات المجتمع التقليدي

30 ديسمبر 2019

(نبيل عناني)

+ الخط -
تشير تقارير التنمية المختلفة إلى استمرار معاناة النساء العربيات من نقصٍ في الحريات الشخصية، في ظل مكانةٍ اجتماعيةٍ مهمّشة، يتعرّضن معها لصنوفٍ من العنف والخوف والإذلال، وتحاصرهن ثقافةٌ مجتمعيةٌ تتعامل مع المرأة، صراحة أو ضمنا، بوصفها أدنى في سلّم التراتبية الاجتماعية.
يغذّي الثقافة التمييزية هذه نمطٌ سائدٌ من خطابٍ دينيٍّ متزمّت، لا يرى في المرأة إلا فتنةً تمشي على قدميْن، قد تخلّ حرّيتها بالتوازن الاجتماعي، أو لا يراها أصلاً في ذاتها، بل باقترانها وجوديا بالولاية عليها: أم ٌوزوجة وأخت وابنة. ومع مواد قانونية تمييزية تساند هذه الثقافة، تبدو المرأة مواطنةً من الدرجة الثانية، لا يمنحها الدستور سوى مساواة شكلية أمام الرجل، حين يُكتفى، غالبا، بالتأكيد على المساواة بين المواطنين في العرق والدين واللغة، ويسقط مبدأ المساواة في الجنس، فيغيب الأخير مرجعا رئيسيا عند التعامل مع قضايا المرأة وحقوقها المختلفة، في ظل فقرٍ في آليات المراقبة للممارسات والانتهاكات التمييزية، تقوم بها مؤسسات الدولة، أو حتى ومؤسسات المجتمع المدني.
أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في العام 1979، اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، وصدّقَت، في الثالث من سبتمبر/ أيلول 1981، على موادها الثلاثين 
التي تدعو إلى إلغاء أي تمييز ضد المرأة، في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية، وغيرها. وفي ظل تعطيل المجلس التشريعي، صادق الرئيس الفلسطيني محمود عباس على "سيداو" في 8 مارس/ آذار 2009، وتم التوقيع رسمياً عليها في الأمم المتحدة في الأول من إبريل/ نيسان عام 2014، وتحت وقع الحماس الديبلوماسي للتوقيع على الاتفاقيات الدولية، بعد حصولها العام 2012 على صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، تكاد تكون دولة فلسطين الدولة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (بما في ذلك دولة الاحتلال الإسرائيلي) التي وقّعت بدون أي تحفظ على جميع بنود "سيداو".
تتطلب الاتفاقية من الدول المنضمّة إليها أن تمتثل بشكل كامل لبنود الاتفاقية، وأن تعمل على اتخاذ التدابير اللازمة لتحسين وضع المرأة، ووضع حدٍّ للعنف ضدها. وأثارت مواد في الاتفاقية، تتعلق، خصوصا، بالعلاقات خارج مؤسسة الزواج، ومثليي الجنس، وزواج المسلمة من غير المسلم، والإجهاض، جدلا كبيرا، ما حدا بالمحكمة الدستورية الفلسطينية العليا، أن تقرّر عام 2018 بأن "أي تعارض للاتفاقية مع الهوية الوطنية غير ملزم بالتطبيق". ومع أن الرئيس الفلسطيني قد وقع إعلانا رئاسيا في عام 2018 بتشكيل فريقٍ وطني لمناقشة التقرير الأولي لدولة فلسطين الخاص باتفاقية سيداو، فإن معظم الإجراءات المطلوبة من السلطة وفق الاتفاقية لم تنفذ. وتطالب منظمات المجتمع المدني الفلسطيني الحقوقية والنسوية استكمال عملية الإصلاح القانوني، ومواءمة التشريعات النافذة مع مضمون الاتفاقية، والقيام بخطوات جدّية 
وحقيقية باتجاه تمكين المرأة في مختلف المجالات، باعتبارها شريكاً في التنمية.
في مطلع الشهر الجاري (ديسمبر/ كانون الأول) أصدر الرئيس الفلسطيني قرارا بقانونٍ حدّد فيه سن الزواج ليصبح 18 سنة، لكلا الجنسين، مع استثناءات محدّدة بقرار من المحكمة المختصة، بدا ذلك أول البنود التي تنفّذ بضغط من الاتفاقية في المجتمع الفلسطيني، ما أشعل جدلا واسعا في الأوساط الفلسطينية بشأن الاتفاقية، وآليات تنفيذها، ومواءمتها للقوانين والتشريعات الفلسطينية. وصدرت في الأيام الماضية مواقف وفتاوى عديدة تحفّظت على الاتفاقية، بحجة أنها تتعارض مع مصادر التشريع، وتخالف قانون الأحوال الشخصية والقانون الأساسي الفلسطيني.
وطفا على سطح المشهد الفلسطيني، الأسبوع الماضي، تصعيد مقلق، تمثل في إعلان عشائر مدينة الخليل رفضها تطبيق اتفاقية سيداو وكل ما يترتب عليها، داعية السلطة الفلسطينية إلى الانسحاب من الاتفاقية، وطالبتها بإغلاق جميع المؤسسات النسوية في فلسطين، وإلغاء عقود إيجار تلك المؤسسات، واعتبار كل من يؤجّر لها شريكاً لها. وحذّرت مدراء المدارس من السماح لأفراد المؤسسات النسوية بدخول المدارس، والقضاة من التزام قرار تحديد سنّ الزواج، ووسائل الإعلام من تغطية النشاطات الخاصة بالجمعيات والمؤسسات التي وصفتها بـ"المشبوهة". كان الإعلان تمرّدا واضحا على السلطة الفلسطينية، وكشفَ عن تهديد الروابط العشائرية وقيمها الاجتماع الفلسطيني المدني، وسلمه الأهلي.
كان من الطبيعي أن ترفض التيارات الدينية المحافظة التي لا تعترف أصلاً بالسلطة الوطنية 
الفلسطينية القرار الرئاسي المذكور (حزب التحرير الإسلامي الذي هاجمه بوصفه جزءا من إجراءات السلطة الرامية لتنفيذ اتفاقية سيداو)، بحجة انعكاساته السلبية على الأسرة والمجتمع، لكن الغرابة تمثلت في تنصّل حركة فتح (إقليم وسط الخليل)، بوصفها حزب السلطة من الاتفاقية التي وقعتها السلطة نفسها، في مسعاها إلى ركوب الموجة الشعبية العشائرية الرافضة الاتفاقية. أما نقابة المحامين الفلسطينيين فأعلنت رفض الاتفاقية، وتمسّكها بقرار المحكمة الدستورية. ورأت المنظمات المدنية الحقوقية والنسوية أن هناك حالة من التحريض الممنهج ضد الاتفاقية، وضد مبادئ حقوق الإنسان وقيمها، والمؤسسات النسوية ومؤسسات المجتمع المدني، ومبادئ سيادة القانون والدولة المدنية.
يمكن لمجتمعٍ ذكوري أن يبرّر حرمان النساء من حقوقهن، بطرقٍ مختلفة، سيما بتكرار تلك الأسطوانة المشروخة بشأن خصوصية الثقافة الفلسطينية ومنظومتها القيمية، لتبدو "سيداو" تريد أن "تسقط فوارق العقيدة وثوابت الأخلاق وخصوصيات اﻷعراف" (الداعية عائض القرني في تغريدة له على "تويتر"). تمتلك هذه الخصوصية المزعومة قدرةً هائلة على التبرير، لكنها تبقى عاجزةً عن أقل تفسير، ولا تعدو أن تكون نكوصا اجتماعيا أمام العجز عن السيطرة على مجريات الواقع، وآلية دفاعية تبرّر الانسحاب من مواجهة استحقاقاته ومتطلباته المستجدة.
ومن وسائل التشويه المتعمّد لحقوق المرأة إخراج هذه الحقوق من سياقها لتصبح تُهما، ففي مجتمعٍ تتعرّض فيها كل ثلاث نساء من أصل عشر للعنف، سيما العنف الجنسي، لا يكون حق الإجهاض دائما تبريرا للزنا، وللعلاقات خارج الزواج، فإلزام الجاني/ الرجل، كما درجت الأعراف والقوانين، بالزواج من المجني عليه/ المرأة لا يعني، في نهاية التحليل، إلا إفلات الجاني من العقاب، وعقابا للضحية مستمرا، بإكمال حياتها مع من اعتدى عليها في المرة الأولى. كما أن الإجهاض المُتاح والآمن، بوصفه حقا للمرأة، هو وسيلة العلاج المثلى لحالات الحمْل نتيجة سفاح القربى، حيث الزواج متعذّر في حالاتٍ كهذه. معظم القوانين الفلسطينية وضعية، وليست مستمدّةً من الشريعة، وقد تخالفها، ولكن التذرّع بأحكام الشريعة الإسلامية حاضرٌ فقط لأجل إغلاق الأبواب أمام حقوق المرأة وحريتها.
من أجل مواءمة التشريعات الوطنية الفلسطينية مع متطلبات "سيداو"، وغيرها من الاتفاقيات الدولية، يحتاج الفلسطينيون إلى حوار مجتمعي هادئ وعقلاني ومسؤول، بعيدا عن التعصّب والتهديد بالعنف، بمشاركة جميع الأطراف، وهو ما يصعُب تحقيقه في ظروف الاحتلال، والانقسام، وعدم توفر ضمانات دستورية في ظل عطالة الدستور، المترافقة وأزمة تمثيل الشعب الفلسطيني، وغياب مؤسساته التشريعية، وفوق ذلك كله، حضور تابوهات المجتمع التقليدي، مسنودة بتواطؤ السلطات الدينية والسياسية والعشائرية، التي تفرض وصايتها على الأفراد والجماعات، وترى في كل تطوير مجتمعي مدني تهديدا لامتيازاتها ومصالحها.
السلطة الفلسطينية التي وقعت على الاتفاقية، وغيرها من الاتفاقيات، قبل استمزاج آراء الشارع الفلسطيني، والذهاب إلى المحافل الدولية بتمثيلٍ ناقص، ومن دون تفويض من المؤسسات التشريعية، تتحمّل مسؤولية أساسية عن هذا المأزق الفلسطيني الجديد.
دلالات