السيسي حين يهتف: يسقط حكم العسكر
أنظر من يتحدّث عن مدنية الدولة في مصر: جنرال عزل رئيسًا منتخبًا، هو المدني الأول في تاريخ مصر، بانقلاب عسكري مسلح ثم قتل نحو ثلاثة آلاف من رافضي هذه الجريمة، مستخدما أكثر الأسلحة العسكرية فتكا.. ثم قتل الرئيس المدني في سجنه، سواء بالتصفية المباشرة أو بالإهمال الطبي العمد، والحرمان من العلاج حتى الموت، ثم بعد ذلك كله يقف في مراعي العسكر ليقول إن على الجيش أن يحمي مدنية الدولة.
ينتحل السيسي شخصية الحاكم المدني للدولة المدنية، حتى يخيّل إليك أنه سيهتف "يسقط حكم العسكر" في لحظةٍ لم تكن فيها سمات الحكم العسكري الصريح واضحةً على وجه الدولة المصرية بمثل هذا الوضوح من قبل، إذ تبدو منظومة الحكم، في هذا التوقيت تحديدًا، وكأنها استعادت هيئتها التي كانت حين تسلم المجلس العسكري حكم مصر، بعد أن أطاحت ثورة يناير حسني مبارك بعيدًا عن السلطة.
في ذلك الوقت، كنا نتندّر أن العلامة الوحيدة على أن ثورة قامت في مصر هي إلغاء وزارة الإعلام، إذ لم يكن العالم المتحضّر يعرف شيئًا اسمه وزارة للإعلام في ذلك الوقت، باستثناء دول الاستبداد والشمولية، وعلى رأسها كوريا الشمالية، غير أن المجلس العسكري الحاكم أعاد منصب وزير الإعلام في إطار محاولته الهيمنة على البلاد، فقام بتعيين محرّرا عسكريا سابقا، يبدو طوال الوقت أكثر عسكريًة من العسكريين أنفسهم، في منصب وزير الإعلام، ليسمّى لاحقًا "جنرال ماسبيرو"، بالنظر إلى دوره المشين في مذبحة ماسبيرو الشهيرة، خريف العام 2011، حين تحوّل التلفزيون المصري إلى وسيلة لحشد مشاعر المواطنين ضد المسيحيين، وتصوير الأمر وكأنهم أعداء للدولة المصرية يحاربون الجيش المصري.
استعاد السيسي وزارة الإعلام في التشكيل الحكومي الجديد، وأعاد "جنرال ماسبيرو" إلى السلطة، متمتعًا بصلاحياتٍ وسلطاتٍ مطلقة للسيطرة على المشهد الإعلامي، على نحو يوحي بالارتداد إلى زمن "الإرشاد والتوجيه" في الستينيات.
كان من مستلزمات وأدوات تمكين المجلس العسكري الحاكم، في ذلك الوقت، ذلك المستشار الذي كان يوضع مثل كيس الملح على كل الموائد، فتجده في كل اللجان والهيئات والمجالس المشكلة بالأمر العسكري، ليصبح تعريف أي لجنة أو مجلس في مصر هو "عمر مروان وبعض الإضافات الأخرى". والآن يصعد هذا العمر مروان من اللجان والهيئات والمجالس، وفي قفزة واحدة يصير وزيرًا للعدل في حكومة السيسي الجديدة، ليمثل واحدًا من ملامح استعادة منظومة السلطة العسكرية 2011-2012، والتي تفكّكت مع انتخاب الرئيس محمد مرسي.
يحدث ذلك كله مع الحضور الكامل لرئيس السلطة العسكرية بعد ثورة يناير، المشير العجوز حسين طنطاوي، ليتولى ترميم المنظومة العسكرية مجدّدًا، باعتباره وكما أطلقت عليه "المرشد الأعلى للنظام العسكري الحاكم"، فيتولى قيادة سلسلة اجتماعاتٍ لترتيب الملفّات المفتوحة، وتلطيف الأجواء بين مجموعة الجنرالات الكبار، في أعلى عمارة السلطة، فيصدر القرار بإطلاق سراح الفريق سامي عنان، نائب طنطاوي في المجلس العسكري الحاكم، بعد الثورة، والذي كان السيسي قد قرّر اعتقاله وسجنه، بعد أن تهور وألمح إلى رغبته الترشّح لانتخابات الرئاسة منافسًا له.
يتم الإفراج عن عنان "العسكري"، من دون أن يعرف أحد لم كان السجن ولم كانت الحرية، فيما احتفظ نظام السيسي بكل رجال عنان ومساعديه من الشخصيات المدنية التي تم الإعلان عن مشاركتها في حملته الانتخابية وفريقه الرئاسي داخل السجن.
كل هذه العسكرية الطافحة في الاقتصاد والسياسة والإعلام والجهاز الإداري للدولة، ثم يأتي عبد الفتاح السيسي، ويسرق العبارة الأشهر للدكتور محمد البرادعي التي فتحت الطريق للجيش للهيمنة على السلطة، والقضاء على أية فرصة لحكم مدني في مصر، حين تحدّث مبكرًا، مطالبًا بوجود مادة في الدستور تسمح للجيش بحماية الدولة المدنية، خوفا من قيام دوله دينية.
وبصرف النظر عن أن أصحاب الضمير من أساتذة علم السياسة يرون أن نقيض الدولة المدنية هو الدولة العسكرية، فإن قول السيسي أيضًا، وكما ظهر مرتبكًا أول من أمس، إن دور الجيش هو حماية مدنية الدولة، يبدو تعبيرًا عن خوف من شيءٍ ما يتحسّس منه الجنرال، غير أننا، في النهاية، ولو سلمنا بسلامة هذه المقولة، فإن المهمة الملقاة على عاتق الجيش، والحال كذلك، هي إنقاذ مدنية الدولة من مجموعة الجنرالات القراصنة الذي اختطفوها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، بإطاحتهم رئيس الجمهورية المنتخب، في عمليةٍ صنّفها أحد شيوخ القضاء المصري "انقلابًا عسكريًا على دستور ديمقراطي"، كما ذهب المستشار طارق البشري، الفقيه الدستوري الذي اختاره المجلس العسكري بعد ثورة يناير رئيسًا للجنة التعديلات الدستورية مارس/ آذار 2011.