النموذج التنموي الجديد.. ثورة الدولة على نفسها؟

24 ديسمبر 2019

(Getty)

+ الخط -
ربما تذكّر أستاذ العلوم السياسية في جامعة إيكس إن بروفانس الفرنسية، وعالم الاجتماع الذي اشتهر بكتابه المحرج في عهد الملك الراحل الحسن الثاني "الملكية والإسلام السياسي"، محمد الطوزي، ذلك الشعار الذي رفعته الحركات اليسارية، ويُحسب على تيارها المغربي، شعار المرحلة الصاخبة من مايو/ أيار 1968 "اركض اركض يا رفيقي، العالم القديم خلفك يطاردك". فهو مطالب، إلى جانب 35 آخرين، منهم المثقف والروائي والسياسي والمفكر والسينمائي وعالم السياسة ورجل الأعمال والمسؤول في مؤسسات الدولة، العاملون منهم في البلاد، ومَن هم في دول أجنبية، عيّنهم أخيراً ملك المغرب محمد السادس، لبلورة نموذج تنموي جديد للبلاد. وهي خطوة أقدم عليها ملك المغرب، بعد أن كان قد أعلن أن الوقت قد حان للخروج من نموذجٍ استنفد احتياطه من الأجوبة عن معضلات المغرب الكبيرة والجديدة، ودعم هذه الدعوة بسلّم قيم غير مسبوق، طالب باسمه بالحقيقة كيفما كانت قسوتها، والشجاعة والجرأة، بل ذهب إلى حد المطالبة بزلزال سياسي.
وقد اختار رئيساً للجنة الخاصة بالنموذج التنموي المبتغى، سفير المغرب في باريس، ووزير الداخلية الأسبق خريج مدرسة التكنولوجيا في ماساتشوسيتس الأميركية، شكيب بنموسى، الذي كان قد احتكّ باليسار الديموقراطي في المغرب، عندما أدار، في سبعينيات القرن الماضي،
 عروضاً فكرية مع شبيبة الاتحاد الاشتراكي، حزب عبد الرحيم بوعبيد.
كان الملك قد أعلن، في خطاب العرش لسنة 2017، قراراً بإحداث لجنة خاصة بوضع النموذج التنموي الجديد للبلاد، بهدف معالجة المشكلات التي اعترت النموذج المعتمد حالياً، وفق شروط جديدة لمواجهة تحديات المرحلة الجديدة. وربطت خطبٌ أخرى بين النموذج التنموي الجديد وضرورة إقامة عقد اجتماعي جديد، مع تنمية شروط إقلاع طبقة وسطى تحمل مشروعها التحديثي والتنموي.
اللجنة ليست مؤسسة دستورية، ولا هي بنية حاكمة، بقدر ما هي "ثينك تانك" (think thank) وخلية تفكير، ستعمل على دراسة مساهمات عديدة وتشريحها، تقدمت بها الهيئات السياسية والنقابية والمهنية والحقوقية ومكونات المجتمع المدني. كذلك فإنها تمتح فلسفتها من الإرادة التوافقية التي هيمنت في معالجة قضايا خلافية عديدة، منها خصوصاً اللجنة الملكية حول مدونة الأسرة، التي تحقق فيها توافق واسع بين الحداثيين والتقليدانيين في موضوع حسّاس للغاية، هو موضوع المرأة. وإعادة تعريف الأسرة في ضوء تطورات المجتمع والتزامات الدولة الكونية، وقد كان الشارع، في وقتٍ، ساحة تنافس حاد بين المحافظين والحداثيين، وانشقّ المجتمع إلى فريقين بشأن المرأة، وكان عديدون قد وصفوا تدخل الملكية بأنه شجاعة تاريخية للدفاع عن التطور في قضيةٍ كان الحديث فيها محرّماً، وقضية طيّ صفحة الماضي، من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة التي ترأسها أولاً المرحوم إدريس بنزكري، أحد قدماء المعتقلين اليساريين، الذي قضى عقوداً في سجون البلاد، قبل أن يصبح الوجه العالمي 
للمصالحة وقراءة الماضي الأليم، وهي التجربة التي كشفت عن سنوات الجمر والرصاص، والضحايا الذين كانوا حطبها من الخمسينيات إلى تسعينيات القرن الماضي. وهي كانت إرادة قوية لقراءة ماضٍ أليم والانطلاق نحو المستقبل.
وعليه، تدرك اللجنة الحالية منذ الآن أنها تعمل في ميدان موضع تقديرات إيديولوجية وسياسية متباينة، بل متناقضة، ولا سيما أن النموذج التنموي يستدعي زاوية معالجة مجدِّدة، ويستهدف ضمنياً عرض نموذج سياسي جديد. وما زالت ردود الفعل التي تناولت تشكيلة اللجنة عند المقاربة الأيديولوجية، في الغالب الأعم، ومن ذلك خروج رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، ضد بعض من أعضائها الذين سمّاهم ممّن "يشكّكون في الإسلام"، وهو ما جرّ عليه انتقاداتٍ لاذعة، غير أن المضمر في خروجه، على الرغم من أن حزبه (العدالة والتنمية) يقود الحكومة اليوم، برأي الأمين العام الذي خلفه، سعد الدين العثماني، هو أنه يعيب فيها غياب العنصر المحافظ في التشكيلة، مع أنه يدرك أن هذا العنصر لم يكن حاضراً، لا في هيئة الإنصاف والمصالحة التي أدخلت المغرب أبواب صفحة جديدة، وعنوانها دسترة توصياتها عن الحكامة الأمنية وعن الحقوق الكونية، ولا في اللجنة الاستشارية بشأن الجهوية التي ترأسها عمر عزيمان، المستشار الحالي لعاهل البلاد.
نحن إذن أمام لجنةٍ لا تراعي التوازنات الحزبية، كما يتطلب ذلك تشكيل الحكومة أو تدبير البرلمان، بحيث يمكن مَن ينظر إلى تشكيلتها أن يسجّل انتماء هذا العضو أو ذاك إلى حساسية يسارية حداثية، أو اجتماعية ديموقراطية، دون أن يكون ملتزماً حزبياً مع هذه الهيئة السياسية أو تلك. فبالنسبة إلى كثيرين ممن ينسبون إلى اليسار فيها، لا علاقة عضوية لهم مع أي حزب موجود في المشهد، إلا في حالاتٍ نادرة، يكون الشرط فيها أكاديمياً أو علمياً أكثر منه حزبياً.
والواقع أن اللجنة كشفت عن طاقاتٍ مغربيةٍ رفيعة، بعضها لم يكن معروفاً لدى العموم، أمثال حميد بوشيخي، الخبير في المقاولات والابتكار في مجال التدبير، وعميد "سولبريدج إنترناشونال سكول أوف بيزنس"، الموجود مقرّها في دايجيون بكوريا الجنوبية، عضو المعهد المغربي للذكاء الاستراتيجي، ورشيد الكراوي، أستاذ ومدير معهد الخوارزميات الموزعة في المدرسة متعدّدة التقنيات في لوزان (سويسرا)، وميشيل زاوي، رئيس جمعية "تارغة" للتنمية المستدامة، بنكي أعمال في لندن ونائب الرئيس السابق لـ"مورغان ستانلي".
قد يدفع وجود هذه الأسماء ألسنة النقد، لكي تقول إنهم بلا ارتباط داخلي عميق، قد يعطّل معرفتهم الدقيقة بالواقع المغربي، على شكل ادّعاء المثقف عند بيير بورديو. وبالاستناد إلى عالم الاجتماع الفرنسي هذا، هناك ما يمكن دحضه من وهم المثقف الذي لا جذور له، وهو ما اعتبره نوعاً من "الإيديولوجية المهنية"، علاوة على أن وجود ممثّلين للجاليات المغربية في الخارج، وأطر من آفاق أخرى، قد يسهل عملية المقارنة أو البنشماركينغ (Benchmarking) اعتبارها تقنية "ماركتينغ"، تسمح بقراءة الواقع في بلدان أخرى وفتح باب الاستيحاء والدراسة، وهو عنصر لم يعد أحد يستطيع الإفلات منه في بلورة أي مشروع مهما صغر أو كبر.
التشكيلة أيضاً قابلة للقراءة من زوايا متعددة، إذ تضم، إلى جانب ثمانيةٍ من الكفاءات من 
مغاربة العالم، عشر نساء وستة من ممثلي الجمعيات وأربعة من العاملين في القطاع المالي والبنكي واثنين من رجال الأعمال، فضلاً عن مسؤولين في مؤسسات الدولة، كما سبق ذكره. وعلى هذه الكفاءات اليوم أن تجيب عن أسئلة كثيرة في نسق متناغم مع الأجندة المطروحة على البلاد، التي أثارها عاهلها أساساً، وهو الذي سبق أن طرح سؤال الثروة التي لا يستفيد منها أغلب المغاربة، وسوء توزيعها، وأثار في خطبٍ كثيرة له مسألة المؤشّرات السلبية للتنمية البشرية، من تعليم وتكوين وصحة ومنظومة اجتماعية.
وكما عبر عن ذلك أحد أعضاء اللجنة لكاتب هذا السطور، المطلوب اليوم، في وضع مغربي مختنق اجتماعياً، مع توالي الهزات الاجتماعية وضيق الأفق لشبابٍ يشعر بنسبة 54٪ بأنه فقير أو مُقصىً، وارتفاع التعبيرات الغاضبة، التي وصلت أغانيها إلى مدرجات الملاعب، "قوة لا نهائية لنضع المستحيل موضع التنفيذ"، إذ تعرف البلاد تغييراتٍ عميقة، سواء في طبيعة الدولة، عبر التوجه الجهوي، بما هو لا مركزية ترابية، تغير من الجغرافيا السياسية للدولة، وتنقل بها من دولة يعقوبية شديدة التمركز إلى دولةٍ جهوية، وعبر إعادة تعريف الدولة جهازاً، عبر لا تمركز إداري ينقل القرار، في جزءٍ كبير منه، إلى المصالح اللاممركزة أو الجهوية، وهو ما يعني، في المحصلة، إعادة تكييف الدولة مع جهاتها، عوض العكس الذي كان معمولاً به.
الماضي، أي المغرب القديم، يطارد ولا شك لجنة شكيب بنموسى، على الأقل بسؤال جوهري: كيف يكون النموذج التنموي الجديد ثورة الدولة على نفسها؟
768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.