إيران‮: ‬المغرب الكبير‮ ‬ومعادلة الفراغ‮ ‬الثلاثي

28 مايو 2024
+ الخط -

‬وجدت إيران نفسها أمام فراغ‮ ‬ثلاثي‮ ‬الأبعاد‬،‮ ‬بعدان منها في‮ ‬حكم التراجيديا، بعد ‬الحادث المأساوي‮ ‬الذي‮ ‬أودى بحياة الرئيس إبراهيم رئيسي‮ ‬إلى جانب وزير خارجيّته حسين أمير عبد اللهيان، ‬والثالث هو في‮ ‬حكم المستقبل القريب، بحثاً عن خليفة ‬للمرشد العام علي‮ ‬خامنئي‮. ‬وبفعل هذا الفراغ،‮ ‬الفعلي ‬في‮ ‬حالتي‮ ‬رئاسة الدولة ورئاسة الديبلوماسية،‮ ‬والمُرتقب في‮ ‬حالة‮ ‬منصب المرشد الأعلى‮ علي ‬الحسيني‮ ‬الخامنئي،‮ الذي‮ ‬فَقَد مع موت رئيسي‮ ‬الخليفة المُحتمل‮،‮ ‬باعتبار أنّ ‬الولي الفقيه ‬هو الذي‮ ‬يتمتع بالسلطة المطلقة‮، ‬ويحسم ‬كلّ القضايا السيادية، ‬ومنها العلاقات الخارجية‮. بفعل هذا الفراغ، ‬كيف سيتصرّف اللاهوت الدستوري‮ ‬ب‬الوضع الدولي‮ ‬للبلاد؟‬
وإذا كان النظام لن‮ ‬يعاني‮ ‬داخلياً‬ ‬بشكل عميق من تبعات هذا الفراغ‮ ‬الثلاثي،‮ ‬بسبب‮ ‬مُميّزات النظام في‮ ‬إيران، ‬المبني على‮ ‬الحكم اللاهوتي‮ ‬المستند إلى ‬شرعية دستورية ‮(ما ‬يجعل منه نظامَ‮ ‬لاهوتٍ‮ ‬دستوري)، ‬فإنّ تأثيرات الحسابات الكامنة في‮ ‬الفراغ‮ ‬المشار إليه‮ ‬في العلاقات الدولية‮ ‬لا بد أن تفرض نفسها‮. ولعلّ في‮ نفي‮ ‬الجيش الإيراني‮ ‬فرضية وجود عمل إجرامي‮ ‬أسفر عن تحطّم المروحية ‬بدايةَ تهدئةٍ في‮ ‬العلاقة مع كلّ الخصوم الدوليين والإقليميين‮، ‬وهو من صميم المسعى ‬الذي‮ ‬اتبعته طهران، إلى حدّ الساعة، في‮ ‬محاولة تفادي‮ ‬الحروب المفروضة عليها، ولو كان ذلك باغتيال قادة استراتيجيين في‮ ‬النظام. في‮ ‬مقابل ذلك،‮ ‬يشتغل‮ ‬الخيال السياسي،‮ ‬الذي‮ ‬أنعشته الظروف الحربية في الشرق الأوسط، وتبادل الهجمات، والاستراتيجيات المتناقضة بين عديد من العواصم،‮ ‬ويميل إلى ‬التشكيك في‮ ‬التدبير الرسمي‮ ‬للنهاية التراجيدية،‮ من دون‮ تقديم دلائل‮. ‬ويمكن أن يُستخلص من ذلك أنّ طهران تعتبر عودة الانتظام إلى حياتها الداخلية، ‬وترتيب مخلّفات الفاجعة علي‮ ‬توازنات النظام أولوية الأولويات‮. ‬فليس سهلاً أن تجد دولة كبرى، مثلُها، نفسَها أمام فراغٍ‮ ‬رئاسي‮ ‬متعدّد الرؤوس‮.‬

"‬ديبلوماسية التعازي" ‬لا تظلّ من دون امتدادات،‮ ‬لا سيّما إذا استحضرنا أنّ العلاقات المغربية الإيرانية عادة ما تكون كأسنان المنشار، فيها صعود وهبوط‮‬

ومن معاني‮ ‬ذلك، ذات الدلالة، أنّ وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي‮ ‬هي‮، ‬في‮ ‬الوقت ذاته، وفاة الخليفة المُحتمل‮ ‬لآية الله علي‮ ‬خامنئي‮. ‬وهي في‮ ‬حدّ ذاتها موتٌ مضاعفٌ ‬بالنسبة لمؤسّسة تقوم على اللاهوت والدستور معاً،‮ أي‮ ‬صلاحيات الرئيس‮ (الدهرية‮)، ‬وصلاحيات المُرشد والولي الفقيه (‬الروحية‮). والمحقّق أنّ‮ ‬النهاية من دون أيّ‮ ‬تدخّل خارجي‮ ‬تخلق الفراغات‮ ‬غير المناسبة، في‮ ‬وقت توجد فيه إيران في‮ ‬تقاطع طرق جيوستراتيجية عديدة‮، منها الجبهات المُعلنة في‮ ‬المنطقة ‮(‬حروب اليمن وسورية وغزّة والعراق، ‬وما إلى ذلك‮ ‬من مواجهات باب المندب)، ‬والتناقضات التي‮ ‬ترعاها في‮ ‬المغرب الكبير وفي‮ ‬أفريقيا‬،‮ ‬ووجودها هي‮ ‬ذاتها في‮ ‬منافسات كبرى على ‬الساحة الدولية، بالإضافة إلى ‬محاولة تموقعها في‮ ‬شمال أفريقيا وجنوب أوروبا‮. ‬وهذا كلّه يجعل من طهران ملتقى نيران عديدة، منها نيران الأعداء القريبين والأعداء البعيدين‮. ولعلّ قراءة العواصم للتحولات المتوقّعة ‬في‮ ‬السردية الإيرانية الجديدة ‬ستأخذ بالحسبان هاته التحوّلات.‮ ‬ومن هنا، فإنّ دول المغرب الكبير لن تشذ عن القاعدة‮. ففي هذا المستوى‮،‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يختلف فقيهان جيوسياسياً في أنّ جزءاً من السياسة الإيرانية‮ ‬يتوجَّه إلى المنطقة لاعتبارات عديدة‮. ‬لعلّ منها الموقع في‮ ‬القارة وفي‮ ‬حوض المتوسّط،‮ ‬وكذلك الموقع على حدود القارة الأوروبية‬،‮ ‬الجنوبية والشرقية المتوسّطية‮، ‬وعلاقتها مع دول المنطقة بلون الطيف الذي‮ ‬يميّز مواقف هاته الدول،‮ ‬فهي‮ ‬مقطوعة مع المغرب لاعتبارات تتعلّق بالموقف الإيراني‮ ‬من الصحراء المغربية،‮ وهو الموقف الذي‮ ‬فرض على الرباط قطع علاقتها‮،‮ ‬لا سيّما بعدما رفضت إيران ما قدّمته المملكة من حجج‮ بشأن تورّط مليشيات الحرس الثوري‮ في‮ ‬تنسيق مع الانفصاليين الصحراويين الموجودين فوق التراب الجزائري‮، من أجل استيراد السلاح المتطوّر، وتلقّيهم ‬الدعم‮ ‬عبر قنوات السفارة الإيرانية في‮ ‬البلد المغاربي‮.‬ ولم‮ ‬يمنع قطع العلاقات بين البلدين من إعلان المغرب عن تعازيه‮ "للشعب الإيراني‮ ‬ولعائلات الضحايا"، ‬وهو موقف‮ ‬له اعتباراته الروحية والدينية،‮ ‬لكنّ‮ "‬ديبلوماسية التعازي" ‬عادة لا تظلّ من دون امتدادات،‮ ‬لا سيّما إذا استحضرنا أنّ العلاقات المغربية الإيرانية عادة ما تكون كأسنان المنشار، فيها صعود وهبوط‮.‬

يبدو أنّ الموقف الثابت، عربياً، هو الحفاظ على دعم الوحدة الترابية للمغرب ضدّ إيران، وغيرها من الدول، التي‮ ‬تسير في‮ ‬أفقها الاستراتيجي‮

في‮ ‬الوقت ذاته،‮ ‬ليس خفيّاً أنّ جزءاً من الحرب في‮ ‬الشرق الأوسط‮ ‬يجد صداه في‮ ‬المغرب الكبير‮‬.‮ ‬ولهذا، حشرت إيران نفسها في‮ ‬الصراع بين الجارتين الشقيقتين في‮ ‬الغرب الإسلامي‮ ‬من زاوية دعم الأطروحة الانفصالية في‮ ‬المنطقة‮. ‬ولعلّ النقطة التي‮ ‬رفعت من درجة التوتّر ‬التصريحات التي‮ ‬سبق أن أدلت بها قيادات من "بوليساريو" بشأن توصلّها بمُسيّرات إيرانية‮‬،‮ ‬تم تجريبها في‮ ‬الحرب الأوكرانية الروسية بنجاح‮.‬ ‬وإلى ذلك، نشطت الرباط‮ ‬داخل ‬اللجنة الرباعية التابعة لجامعة الدول العربية،‮ المكلّفة بكلّ ما له علاقة بالتدخّلات الأجنبية في‮ ‬الشؤون العربية،‮ ‬ونجحت في‮ إصدار مواقف عربية مساندة للمغرب في‮ "‬رفض التدخّلات الأجنبية، واستهداف الوحدة الترابية لكلّ البلدان العربية"‬،‮ ‬وظلّ الموقف نفسه حتّى إبّان القمّة التي‮ ‬احتضنتها الرياض‬،‮ ‬في‮ ‬تزامن‮ مع المصالحة السعودية الإيرانية‮.‬‮ ‬ويبدو أنّ الموقف الثابت هو الحفاظ على دعم الوحدة الترابية للمغرب ضدّ إيران، وغيرها من الدول، التي‮ ‬تسير في‮ ‬أفقها الاستراتيجي‮.‬
تضاف إلى ما سبق‬ ‬منافسة حادّة‮ ‬ثلاثية الأضلاع بين المغرب وإيران وتركيا، في‮ ‬المناطق التي‮ ‬انسحبت منها فرنسا،‮ ‬وقد كان ذلك موضوع تقرير وكالة فرانس بريس،‮ ‬أنّه "مع انسحاب فرنسا من منطقة الساحل الأفريقية،‮ ‬يضاعف المغرب وتركيا وإيران مبادراتهم حيال الأنظمة العسكرية الحاكمة في‮ ‬المنطقة، التي‮ ‬تسعى إلى تنويع شركائها‮". ‬ويرى المحلّلون الفرنسيون أنّ من الممكن أن‮ ‬يواجه كلٌ من ‮"‬المغرب وتركيا اللذين‮ ‬يتمتّعان بنفوذ منذ فترة طويلة في المنطقة،‮ ‬منافسةً جديدةً من إيران، التي‮ ‬زادت مبادراتها منذ 2020، ‬والانقلابات في‮ ‬مالي‮ ‬وبوركينا فاسو والنيجر‮".‬ وإذا كانت العلاقة الأخرى تملك بصماتها الخاصّة، فممّا لا شك فيه أنّ تموقع إيران بين الرباط والجزائر‮ ‬يُرخي‮ ‬بظلاله على باقي‮ ‬العلاقات في‮ ‬المنطقة، ‬ومن ذلك الموقف التونسي‮، ‬ولعلّ الرئيس قيس سعيّد ‬خرج عن كلّ التحفّظات التي‮ ‬دأبت عليها تونس تجاه نظام إيران منذ‬ 1965، إبّان زيارة الرئيس‮ ‬الأسبق الحبيب بورقيبة لطهران في أيام‮ ‬الشاه، ‬وقد توجّه قيس سعيّد، الذي‮ ‬واجه عزلة‮ ‬غير مسبوقة سياسياً وجيوستراتجياً، إلى‮ ‬طهران لحضور الجنازة، ‬وحظي‮ ‬بلقاء المرشد الأعلى،‮ ‬وتنويه ديبلوماسي ‬يشبه إلى حدّ كبير الاحتضان (!‮)‬

بالنسبة إلى كلٍ من ليبيا وموريتانيا،‮ ‬تسعى إيران إلى وجود اقتصادي‮ ‬وسياسي،‮ ‬لا تخفى ظلاله،‮ ولا ‬سيّما في العلاقة مع نواكشوط

ولعلّ السلوك التوسّعي‮ ‬تجاوز حتّى ‬الجزائر، التي‮ ‬تربطها علاقات أقوى‮ ‬مع الملالي، إذ اكتفت الدولة الجزائرية ببعث وفد‮ ‬يترأّسه رئيس‮ ‬البرلمان إبراهيم بوغالي،‮ ‬ولم‮ ‬يجد في‮ ‬استقباله سوى رئيس لجنة الأمن القومي‮ ‬في‮ ‬البرلمان الإيراني‮ أبو الفضل عموئي‮. ‬والحال أنّ أول اتصال مع المسؤولين السامين الإيرانيين حظي‮ ‬به قيس سعيّد كان في‮ ‬الجزائر،‮ ‬على هامش قمّة الدول المصدّرة للغاز‬، إذ حرصت الجارة الغربية لتونس على تنظيم لقاء سعيّد والراحل إبراهيم رئيسي‮. لهذا، لوحظ أنّ السفر الرئاسي‮ ‬يعدّ تحوّلاً فارقاً في‮ ‬العلاقة مع طهران، بل اعتبرته عواصم‮ ‬غربية "مثار أسئلة بشأن التموقع الاستراتيجي‮ ‬لتونس"، ‬التي‮ ‬تعرف علاقاتها توتّراً عميقاً مع الغرب، ‬وفي‮ ‬وقت تقلّصت فيه هوامش مناورات سعيّد،‮ ‬وخصوصاً في‮ ‬بحثه عن الخروج من أزمته الاقتصادية الخانقة، وعجزه عن الاقتراض من صندوق النقد الدولي، ‬ومن السعودية، ومن الدول الغربية‮. ‬وممّا‮ ‬يزيد من‮ ‬نفوذ إيران ‬في‮ ‬قصر قرطاج وجودُ مجموعةٍ من المُقرّبين والمستشارين‮ ‬الرئاسيين الذين لا‮ ‬يخفون‮ "‬قرابتهم" ‬الأدبية والسياسية مع الملالي،‮ ‬ولعلّ أولهم شقيق الرئيس نوفل سعيّد‮.‬
بالنسبة إلى كلٍ من ليبيا وموريتانيا،‮ ‬تسعى إيران إلى وجود اقتصادي‮ ‬وسياسي،‮ ‬لا تخفى ظلاله،‮ ولا ‬سيّما في العلاقة مع نواكشوط،‮ ‬التي‮ ‬عرفت تحوّلاً مُهمّاً مع زيارة وزير الخارجية الإيراني الراحل (يناير/ كانون الثاني 2023)، وكذلك منذ ارتفاع درجة اهتمام الحلف الأطلسي‮ ‬بموريتانيا،‮ إذ ليس خافياً أنّ إيران تريد أن تحدّ من نفوذه، وأن‮ ‬يكون لها موقع قدم في‮ ‬البلاد، ‬علاوة على رغبة موريتانيا الاستفادة‮ ‬من‮ ‬حالة‮ ‬التحوّل‮ ‬الجيوستراتيجي،‮ ‬التي‮ ‬شهدها‮ الشرق الأوسط‮، ‬لفائدة تلطيف الأجواء بين طهران وعواصم‮ ‬لها علاقات وطيدة مع نواكشوط‮. ‬
أي‮ُّ ‬أفق لهاته التحوّلات؟... في‮ ‬الجواب عن السؤال سيتضح‮ ‬ما إذا كانت سلطة الحرس الثوري‮، ‬والقوّة المحافظة الأكثر تشدّداً،‮ ‬ستزداد قوّة، أو‮ ‬أنّ‮ ‬الاشتراطات الجديدة ستغيّر‮ ‬من‮ ‬تقدير الموقف، ‬وما إذا كانت إيران ستميل أكثر إلى منطق الدولة أو إلى منطق الثورة،‮ ‬التي‮ ‬قيل إنّ الإمام الخميني‮ ‬خلقها، ولكنّ خامنئي‮ ‬هو الذي‮ ‬صدَّرها. في‮ ‬الجواب عن السؤال‮، ‬‬ليس‮ ‬تكهّناً القول إنّ العلاقة مع طهران ستظلّ عنصراً ثابتاً من عناصر التوتّر الكبرى في‮ ‬المغرب الكبير‮.‬

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.