21 يوليو 2024
تونس.. الجيوسياسي والانسداد الديبلوماسي
يعتري الشأن الديبلوماسي التونسي صمت غريب، نعته بعضهم بالرضوخ للأمر الواقع، والانزواء إزاء قضايا إقليمية ودولية عديدة، ذات أهمية استراتيجية وأمنية للبلاد، على غرار الاتفاقية الأمنية العسكرية التركية ــ الليبية، وما أثارته من هواجس وحسابات في المنطقة. وهي الاتفاقية ذات الطبيعة العسكرية التي من المفترض أن تثير حفيظة دول المنطقة، وتحديدا تونس الجارة المباشرة لليبيا التي تجاهلت الأمر، واكتفت بالصمت، فلم يصدر عنها موقف رسمي تجاه هذا الاتفاق (إلى حد كتابة هذه الأسطر). ناهيك عن تهديدات اللواء الليبي المتقاعد، خليفة حفتر، بإشعال فتيل حرب شاملة على العاصمة طرابلس، ورفضه المتواصل للحل السياسي بدعم مباشر من روسيا التي أعلنت عودتها بقوة إلى المنطقة، ومؤازرة الضابط المتقاعد بالسلاح والخبراء، ما يشكل خطرا قادما على الجارتين، تونس والجزائر.
أحداث إقليمية ودولية أخرى حضرت فيها تونس بالغياب، ومنها قمة المناخ التي انطلقت أعمالها بداية من 2 ديسمبر/ كانون الأول الجاري في مدريد، والتي وعدت فيها تونس بتقديم مشروعين للقمة بشأن حماية الواحات ومقاومة التصحر في شمال أفريقيا، وآخر لحماية البيئة في شمال أفريقيا، وبذلك لن تستفيد تونس من المشاريع التي يمولها في إطار هذه القمة صندوق تمويل جنوب المتوسط الذي استفادت منه تونس سابقاً، وتغييبها كذلك عن مؤتمر برلين حول ليبيا، والذي ينعقد قريبا.. وقد رشحت معطيات أن زيارة وزير خارجية ألمانيا تونس يومي 27 و28 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي الخاصة بالمؤتمر كانت لتوضيح نقاط كثيرة ذات
علاقة بالمصالح التونسية، وما يحفّ بالمؤتمر من قضايا وملفات، لم تحقق المرجوّ منها، واكتفى الضيف الألماني بمقابلة بروتوكولية مع الرئيس قيس سعيد، وظلت تونس مبعدة عن هذا المؤتمر. وفيما يتعلق بالمؤتمر الدولي للفرنكوفونية، والذي كان يفترض انعقاده في تونس في بحر العام المقبل، حيث تتسلم فيه الرئاسة، فإن ما يرشح من أخبار يشي بكثير من الغموض والخلط والحيرة إزاء عقده.
في تفسيرهم هذا الغياب، يجمع خبراء وديبلوماسيون على أن تونس تدفع ضريبة إبعاد وزير الخارجية السابق خميس الجهيناوي الذي كان موظفا في الدولة التونسية ولم يكن سياسيا، وهو أحد تلاميذ الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي الذي أسهم، بعد الزعيم الحبيب بورقيبة، في بناء صرح الديبلوماسية التونسية العريقة، وقاد مسيرتها باقتدار منذ عام 1982.
وبالعودة إلى الشأن الداخلي، يعتبر هؤلاء عدم قيام الرئيس قيس سعيد ولو بزيارة واحدة خارج البلاد، مثل ما صرح به بعد فوزه بالرئاسة، قد أضعف الصورة الديبلوماسية التونسية ما بعد انتخابات أكتوبر 2019، ولفّها بغموضٍ ستكون عواقبه وخيمة على صورة تونس في الخارج. إذ لم يفصح رئيس الجمهورية عن توجهاته الديبلوماسية إزاء القضايا الكبرى التي تشغل المنطقة وحوض المتوسط والعالم، مكتفيا بما جاء في خطابه الأول عن القضية الفلسطينية، معلنا تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولم تصدر عنه توضيحاتٌ في هذا السياق. وبذلك يتواصل انكفاء الديبلوماسية التونسية على مستويي رئاسة الجمهورية والوزارة المعنية. في
المقابل، تحولت الوجهة الديبلوماسية إلى مقر البرلمان، حيث لم تهدأ حركة السفراء في أروقته منذ تولي راشد الغنوشي رئاسة مجلس النواب. وقد فتح توافد هؤلاء السفراء الذي لا ينقطع على زيارة رئيس المجلس، مجالا رحبا لتأويلات وقراءات نعته ملاحظون بالتدافع الديبلوماسي، تسعى من خلاله الرئاسة الجديدة للبرلمان إلى طرح نفسها قطبا جديدا في سياسة تونس الخارجية، بتفعيل أدوار ديبلوماسية لم تمنح لها أصلا بمقتضى دستور 2014 الذي جعل رئيس الجمهورية رمزا لها وعنوانا لسياسة الدولة الخارجية. فقد استقبل رئيس البرلمان سفراء الكويت وقطر والسعودية والجزائر وتركيا وإيطاليا وغيرهم، وقد رأى متابعون أن هذه الزيارات تجاوزت البروتوكولات المتعارف عليها إلى مرحلة البحث عن أدوار حقيقية في السياسة الخارجية للدولة، مستشهدين بلقاء الغنوشي بسفير إيطاليا بشأن الملف الليبي، وتأكيد رئيس البرلمان حرص تونس على المشاركة في مؤتمر برلين، موضحا أن موقف تونس داعم للحل السلمي والحوار في الأزمة الليبية، ويغلب العقل على الحلول العسكرية، ويتمسّك باتخاذ مسافة من مختلف أطراف الصراع. وعلى الرغم من تماهي هذا الموقف مع موقف رئيس الجمهورية الذي أعلنه في برنامجه الانتخابي، متعهدا من خلاله بدعم الحل السلمي والحوار الداخلي في ليبيا، إلا أن الأخير اكتفى بالوقوف في هذا المربع، ولم تصدر عنه أية مبادرات أو لقاءات لتأكيد ما تعهد به انتخابيا.
وتعليقا على لقاء الغنوشي بالسفير السعودي، ذكرت مصادر صحافية وديبلوماسية أنه لقاء
تجاوز المجاملات الديبلوماسية، وأشار إلى منعرج في علاقات أكثر ودية بين رئيس البرلمان، بما يحمله من رمزية فكرية وسياسية وبما يختزله من مرجعيات أيديولوجية، والسعودية التي تقول مصادر في تونس إنها تشهد اليوم تحولا في سياساتها الخارجية، لتكون أكثر براغماتية بعيدا عن المكبلات الأيديولوجية التي عزلتها ديبلوماسيا في الماضي البعيد والقريب.
ويبدو أن رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، يسعى في هذا النشاط الديبلوماسي إلى تأسيس أرضية جديدة للتجذّر السياسي لحركته في محيطها العربي، وإذابة الجليد الأيديولوجي من حولها، محليا وإقليميا، والظهور في مظهر الحزب المدني الذي يزاول السياسة من منطق براغماتي، ووفق مصلحة الدولة، وليس من منطلق العداء أو الانعزال الفكري الذي تمارسه الحركات السياسية المتصلبة أيديولوجيا، انسجاما مع سعي الغنوشي إلى جعل حركة النهضة تقود دولة مدنية لها مصالحها التي تدافع عنها.
ومهما يكن من أمر، هذه التحولات الطارئة على الديبلوماسية التونسية يمكن أن تليها تحولات قادمة تجد مبرّرا لهذا الانسداد الديبلوماسي، وتفسر هذا الإرباك وتبادل الأدوار الديبلوماسية بين الرئاسة ووزارة الشؤون الخارجية ورئاسة البرلمان. وعسى أن يكون هذ العطب الديبلوماسي هينا وظرفيا، لتعود بعده تونس إلى مرجعيتها الديبلوماسية التي ميزتها.
في تفسيرهم هذا الغياب، يجمع خبراء وديبلوماسيون على أن تونس تدفع ضريبة إبعاد وزير الخارجية السابق خميس الجهيناوي الذي كان موظفا في الدولة التونسية ولم يكن سياسيا، وهو أحد تلاميذ الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي الذي أسهم، بعد الزعيم الحبيب بورقيبة، في بناء صرح الديبلوماسية التونسية العريقة، وقاد مسيرتها باقتدار منذ عام 1982.
وبالعودة إلى الشأن الداخلي، يعتبر هؤلاء عدم قيام الرئيس قيس سعيد ولو بزيارة واحدة خارج البلاد، مثل ما صرح به بعد فوزه بالرئاسة، قد أضعف الصورة الديبلوماسية التونسية ما بعد انتخابات أكتوبر 2019، ولفّها بغموضٍ ستكون عواقبه وخيمة على صورة تونس في الخارج. إذ لم يفصح رئيس الجمهورية عن توجهاته الديبلوماسية إزاء القضايا الكبرى التي تشغل المنطقة وحوض المتوسط والعالم، مكتفيا بما جاء في خطابه الأول عن القضية الفلسطينية، معلنا تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولم تصدر عنه توضيحاتٌ في هذا السياق. وبذلك يتواصل انكفاء الديبلوماسية التونسية على مستويي رئاسة الجمهورية والوزارة المعنية. في
وتعليقا على لقاء الغنوشي بالسفير السعودي، ذكرت مصادر صحافية وديبلوماسية أنه لقاء
ويبدو أن رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، يسعى في هذا النشاط الديبلوماسي إلى تأسيس أرضية جديدة للتجذّر السياسي لحركته في محيطها العربي، وإذابة الجليد الأيديولوجي من حولها، محليا وإقليميا، والظهور في مظهر الحزب المدني الذي يزاول السياسة من منطق براغماتي، ووفق مصلحة الدولة، وليس من منطلق العداء أو الانعزال الفكري الذي تمارسه الحركات السياسية المتصلبة أيديولوجيا، انسجاما مع سعي الغنوشي إلى جعل حركة النهضة تقود دولة مدنية لها مصالحها التي تدافع عنها.
ومهما يكن من أمر، هذه التحولات الطارئة على الديبلوماسية التونسية يمكن أن تليها تحولات قادمة تجد مبرّرا لهذا الانسداد الديبلوماسي، وتفسر هذا الإرباك وتبادل الأدوار الديبلوماسية بين الرئاسة ووزارة الشؤون الخارجية ورئاسة البرلمان. وعسى أن يكون هذ العطب الديبلوماسي هينا وظرفيا، لتعود بعده تونس إلى مرجعيتها الديبلوماسية التي ميزتها.
دلالات
مقالات أخرى
25 اغسطس 2023
02 اغسطس 2023
14 يوليو 2023