24 أكتوبر 2024
ترامب والسياسة بوصفها بلطجة
سيشكل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فارقاً مهماً في تاريخ السياسة وممارستها في الولايات المتحدة والعالم، ليس لعبقريةٍ يمتلكها، بل لفجاجة يمارسها، وبحكم التأثير الكبير للولايات المتحدة بوصفها قاطرة العالم القوية. عندما تأتي المصادفة برجل فج وغير مسؤول ليقود الولايات المتحدة، على العالم أن يخاف من الرجل، وما يتركه من آثارٍ قد لا يمكن معالجتها بعد مغادرته البيت الأبيض. ولا تقتصر فجاجة الرجل ووقاحته على سياسته الخارجية، بل وعلى سياسته الداخلية، وعلى تعامله مع النخبة السياسية الأميركية، فهو لم يتورع عن شتم كل الذين اشتغلوا معه وغادروه، ولا عن دعوة ثلاث نائبات في الكونغرس الأميركي من أصول غير أميركية للعودة إلى بلادهم الأصلية.
يبدو أن الرجل الذي جاء من خارج النخبة السياسية الأميركية يحتقر هذه النخبة، ويحتقر تقاليدها في ممارسة السياسة، باعتبار هذه السياسة نوعا من النفاق، وما يقوم به من تحطيم المعايير السياسية والقوانين الدولية هو الممارسة الصحيحة الحريصة على المصلحة الأميركية العليا. ولأنه جاء من عالم المال غير النظيف، فهو يعتقد أن كل شيء يمكن التعامل معه باعتباره صفقة عقارية، بعيداً عن الحد الأدنى من القيم والأخلاق.
منذ دخل البيت الأبيض، وهو يدير سياسة استفزازية ومهينة تجاه أقرب حلفاء أميركا، فهو رفض مصافحة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، عندما زارت الولايات المتحدة، وشكّل موفقاً شاذاً
ليس بالمعنى السياسي فحسب، بل بالمعنى البروتوكولي أيضاً. وإذا كان هذا على مستوى الشكل، فهو داعية إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي، وكان سعيداً بالاستفتاء الذي صوت لخروج بريطانيا منه. كما أنه طالب حلفاء بلاده في حلف شمال الأطلسي (الناتو) أن يزيدوا من نفقاتهم العسكرية بمقدار الضعف. وصرح تصريحات عديدة محاولاً استفزاز ألمانيا بأنها بلد تخضع للسيطرة الروسية، وقال "غير مقبول أن تدفع برلين مليارات الدولارات لموسكو التي علينا حمايتها منها" (كأن ألمانيا تدفع لروسيا هذه الأموال تبرعات لروسيا، وليس مقابل الغاز الروسي). وعندما طلبت السعودية، بعد ضرب إيران ناقلات نفطية، حماية الولايات المتحدة التي توقع معاهدة دفاع مشترك تعود إلى اتفاق كوينسي في العام 1945 بين فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود، وجددها جورج بوش الابن العام 2005 إلى ستين عاماً أخرى، وهي تنص على توفير الولايات المتحدة الحماية اللامشروطة للعائلة الحاكمة، مقابل ضمان السعودية إمدادات الطاقة للولايات المتحدة. قال ترامب علناً "الحماية مقابل الدفع"، و"إن السعودية وافقت على الدفع مقابل كل ما سنرسله من قوات".
وفي أميركا اللاتينية، والمكسيك حصراً، ليس الحال أفضل، ولمواجهة الهجرة غير الشرعية القادمة من المكسيك، قرّر ترامب بناء جدار لمنع اللاجئين من اجتياز الحدود المكسيكية ـ الأميركية الطويلة، وطلب من المكسيك دفع كلفة الجدار. وفي العام 2017، ألغى الرئيس المكسيكي زيارته إلى الولايات المتحدة، وأعلن أن بلاده لن تدفع كلفة بناء الجدار الذي يعتزم الرئيس الأميركي بناءه على الحدود بين البلدين. وحتى داخلياً، رفض الكونغرس تمويل الجدار، ما دفع ترامب إلى إعلان الطوارئ في منطقة الجدار، من أجل تمويل بنائه متجاوزاً موافقة الكونغرس.
كما أن فضيحة أوكرانيا التي يقوم الكونغرس بسببها بجلسات استماع من أجل إقالة الرئيس ترامب الذي استغل منصبه، تؤشر إلى طريقة تفكير الرجل الابتزازية، فقد أوقف المساعدات الأميركية لأوكرانيا من أجل ابتزازها بفتح تحقيق فساد مع نجل نائب الرئيس السابق جو بايدن، بوصف هذا عضو مجلس إدارة في مؤسسة أوكرانية، للتأثير على حظوظ والده منافس ترامب المتوقع في الانتخابات الأميركية المقبلة.
وفي المنطقة العربية، وعد ترامب بـ"صفقة القرن" السخية لحل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وتم تأجيل الإعلان عنها مرات من أجل مساعدة نتيناهو في دورتين انتخابيتين في إسرائيل. أما
إسرائيل، مدللة ترامب، فقد حصلت على كل ما تتمناه في الهدايا التي منحها ترامب لها، حتى قبل الإعلان عن الصفقة. ولكن هذه الهدايا لم تكن على حساب أميركا، بل على حساب الفلسطينيين والعرب. الأولى، اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها في أقرب وقت. الثانية، الاعتراف بضم إسرائيل للجولان، وعدم اعتبارها أراضي محتلة يجب إعادتها إلى أصحابها. والثالثة، وقد لا تكون الأخيرة، الاعتراف بشرعية المستوطنات والبناء فيها في الضفة الغربية، واعتبارها غير متعارضة مع القانون الدولي. وليست هذه الهدايا متعارضة مع القانون الدولي فحسب، بل هي متعارضة مع المواقف الأميركية السابقة، والتي هي منحازة إلى إسرائيل أصلاً، ولكن سياسة ترامب ليست منحازة إلى إسرائيل فحسب، بل هي منحازة لغلاة اليمين الإسرائيلي. ولذلك لم يتردد الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي، في القول أن ننتظر من ترامب تشريع الطرد الإسرائيلي للفلسطينيين بوصفه ممارسة شرعية.
ليس غريبا، في الوقت الذي يعامل ترامب حلفاء أميركا باحتقار والإهانات والتهديدات، نجده معجبا باثنين من أردأ الأنظمة السياسية في العالم، روسيا وكوريا الشمالية. ويبدو أنه يتمنى أن يكون النظام الأميركي شبيها بأحد هاذين النموذجين الرديئين، ليعطيه القدرة على التصرّف بالحرية التي يشاؤها، ليس فقط مع العالم الخارجي، بل مع المؤسسات الأميركية التي تقف في وجهه في كثير من سياساته المخجلة، مثل فصل أولاد اللاجئين عن أهاليهم، أو تنفيذ سياسته المقترحة بإطلاق النار على أرجل اللاجئين، أو إعدام خصومه السياسيين بوحشية، كما يفعل زعيم كوريا الشمالية.
واضح أن الممارسة السياسية التي يقوم بها ترامب متناقضة مع تاريخ الممارسة السياسية للإدارات الأميركية السابقة، والتي تقوم على ممارسة السياسة بوصفها سياسة مؤسسة، وليست سياسة شخص. يكسر ترامب هذا السياق، ويظهر بمظهر الرئيس الذي يدير السياسة عبر "تويتر"، متجاوزاً كل المؤسسات الأميركية التي يعتبرها قيداً عليه. وإذا كان صحيحا أن المؤسسات الأميركية تستطيع أن تقيد سياسات ترامب لتنضبط داخل الإطار المؤسساتي الأميركي، فإن من الواضح أن قوة مؤسسة الرئاسة وثقلها في النظام السياسي الأميركي تجعلان ترامب قادراً على التحلل، في حالاتٍ عديدة، من قيود المؤسسات الأميركية، وفرض مزاجه وإرادته على الجميع. لذلك سيبقى يواصل ممارسة السياسة بوصفها بلطجة، ويعتبرها درساً بليغاً في السياسة، طالما تجد استجابة من العالم، ومن الدول التي يبتزّها.
يبدو أن الرجل الذي جاء من خارج النخبة السياسية الأميركية يحتقر هذه النخبة، ويحتقر تقاليدها في ممارسة السياسة، باعتبار هذه السياسة نوعا من النفاق، وما يقوم به من تحطيم المعايير السياسية والقوانين الدولية هو الممارسة الصحيحة الحريصة على المصلحة الأميركية العليا. ولأنه جاء من عالم المال غير النظيف، فهو يعتقد أن كل شيء يمكن التعامل معه باعتباره صفقة عقارية، بعيداً عن الحد الأدنى من القيم والأخلاق.
منذ دخل البيت الأبيض، وهو يدير سياسة استفزازية ومهينة تجاه أقرب حلفاء أميركا، فهو رفض مصافحة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، عندما زارت الولايات المتحدة، وشكّل موفقاً شاذاً
وفي أميركا اللاتينية، والمكسيك حصراً، ليس الحال أفضل، ولمواجهة الهجرة غير الشرعية القادمة من المكسيك، قرّر ترامب بناء جدار لمنع اللاجئين من اجتياز الحدود المكسيكية ـ الأميركية الطويلة، وطلب من المكسيك دفع كلفة الجدار. وفي العام 2017، ألغى الرئيس المكسيكي زيارته إلى الولايات المتحدة، وأعلن أن بلاده لن تدفع كلفة بناء الجدار الذي يعتزم الرئيس الأميركي بناءه على الحدود بين البلدين. وحتى داخلياً، رفض الكونغرس تمويل الجدار، ما دفع ترامب إلى إعلان الطوارئ في منطقة الجدار، من أجل تمويل بنائه متجاوزاً موافقة الكونغرس.
كما أن فضيحة أوكرانيا التي يقوم الكونغرس بسببها بجلسات استماع من أجل إقالة الرئيس ترامب الذي استغل منصبه، تؤشر إلى طريقة تفكير الرجل الابتزازية، فقد أوقف المساعدات الأميركية لأوكرانيا من أجل ابتزازها بفتح تحقيق فساد مع نجل نائب الرئيس السابق جو بايدن، بوصف هذا عضو مجلس إدارة في مؤسسة أوكرانية، للتأثير على حظوظ والده منافس ترامب المتوقع في الانتخابات الأميركية المقبلة.
وفي المنطقة العربية، وعد ترامب بـ"صفقة القرن" السخية لحل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وتم تأجيل الإعلان عنها مرات من أجل مساعدة نتيناهو في دورتين انتخابيتين في إسرائيل. أما
ليس غريبا، في الوقت الذي يعامل ترامب حلفاء أميركا باحتقار والإهانات والتهديدات، نجده معجبا باثنين من أردأ الأنظمة السياسية في العالم، روسيا وكوريا الشمالية. ويبدو أنه يتمنى أن يكون النظام الأميركي شبيها بأحد هاذين النموذجين الرديئين، ليعطيه القدرة على التصرّف بالحرية التي يشاؤها، ليس فقط مع العالم الخارجي، بل مع المؤسسات الأميركية التي تقف في وجهه في كثير من سياساته المخجلة، مثل فصل أولاد اللاجئين عن أهاليهم، أو تنفيذ سياسته المقترحة بإطلاق النار على أرجل اللاجئين، أو إعدام خصومه السياسيين بوحشية، كما يفعل زعيم كوريا الشمالية.
واضح أن الممارسة السياسية التي يقوم بها ترامب متناقضة مع تاريخ الممارسة السياسية للإدارات الأميركية السابقة، والتي تقوم على ممارسة السياسة بوصفها سياسة مؤسسة، وليست سياسة شخص. يكسر ترامب هذا السياق، ويظهر بمظهر الرئيس الذي يدير السياسة عبر "تويتر"، متجاوزاً كل المؤسسات الأميركية التي يعتبرها قيداً عليه. وإذا كان صحيحا أن المؤسسات الأميركية تستطيع أن تقيد سياسات ترامب لتنضبط داخل الإطار المؤسساتي الأميركي، فإن من الواضح أن قوة مؤسسة الرئاسة وثقلها في النظام السياسي الأميركي تجعلان ترامب قادراً على التحلل، في حالاتٍ عديدة، من قيود المؤسسات الأميركية، وفرض مزاجه وإرادته على الجميع. لذلك سيبقى يواصل ممارسة السياسة بوصفها بلطجة، ويعتبرها درساً بليغاً في السياسة، طالما تجد استجابة من العالم، ومن الدول التي يبتزّها.