13 نوفمبر 2024
العراق.. موسم البحث عن "الطرف الثالث"
تسترجع الذاكرة رواية "جريمة في قطار الشرق السريع" لأجاثا كريستي. فيها يرقد المليونير ميتا في مقصورته في القطار، ويعرف الجميع بأن ثمّة واقعة قتل. يدرك المحقق أنه لا بد أن يكون القاتل واحدا من ركاب القطار الثلاثة عشر الآخرين، حيث اكتشف أن خلفياتهم واحدة، وأنهم جميعا ينتمون لأسرة بعينها، ويرجّح أن يكون قصدهم الانتقام من القتيل، ثأرا لموقف له ضد الأسرة، ويخلص إلى تأكيد أن ليس ثمة طرف ثالث اقتحم القطار وارتكب الجريمة.
نجد الأمر نفسه ماثلا في وقائع قتل نحو أربعمائة شاب وإصابة ستة عشر ألفا آخرين في انتفاضة العراق. يظهر القناصون هنا أو هناك متلفعين بالسواد، يختارون ضحاياهم بعناية، يرمون بالرصاص الحي مصوّبين على الرؤوس والصدور، تنتفض أجساد الشباب ثم تتهاوى، يلوذ القناصون بالفرار ويختفون، ونعرف أن الذين اقترفوا الجريمة من خلفيات واحدة، وأصحاب أجندة واحدة، وإن اختلفت في التفاصيل. هم أنفسهم من ارتكب جرائم الخطف والاغتيال والتغييب والاعتقال على مدى السنوات العجاف السالفة، وهم أنفسهم من حكم البلاد وأمسك بسلطة القرار منذ الغزو الأميركي لها، ومارس أعمال القرصنة والنصب والنهب واللصوصية، وهم أنفسهم من استورد أدوات الجريمة من عتاد حيّ وقنابل غاز ورمانات الدخان القاتلة التي تخترق الجماجم والصدور، وهم أنفسهم، قبل ذلك وبعده، من يتكئ على "دولة الولي الفقيه"، ويرهن مصائر بلاده لها، هل هي بلاده حقا؟
هذا النفر الموسوم بالضعة والجبن هو "الطرف الثالث" الذي تشير إليه الأصابع، وليس ثمّة "طرف ثالث" غيره، وليس غيره من اقترف كل تلك الخطايا، لكنه مع كل ما فعل ويفعل ما فتئ يجهد نفسه للتنصل من تبعة تلك الجرائم وإلقائها على عناصر "معلومة مجهولة"، يزعم أنه يبحث عنها. يلقي المسؤول التنفيذي الأول، عادل عبد المهدي، اللوم على "عناصر مندسّة" يطلب منها الكف عن أعمالها الإجرامية، ويعد بالتحقيق والقبض على الفاعلين. ورئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، يدعو إلى اعتقال ومحاكمة "القناصة" التي تشكل "طرفا ثالثا". ووزير الداخلية ياسين الياسري يكرّر الأسطوانة نفسها، ملقيا المسؤولية على "أياد خبيثة" يجهلها، ونافيا أن تكون لرجال الأمن يد في حوادث القنص والقتل الممنهج. وينكر وزير الدفاع نجاح الشمري أن وزارته قد استوردت أدوات الجريمة القاتلة، ويتهم "طرفا ثالثا" باستيرادها واستخدامها في قنص المتظاهرين، وحتى محافظ البصرة ومدير شرطة الناصرية يقولان إن إطلاق النار على المتظاهرين تم "من أماكن مجهولة"، وارتكبته أطراف ثالثة، وأعلى سلطة قضائية في البلد تعد بالقبض على القتلة "المعلومين المجهولين" والاقتصاص منهم!
وحتى المليشيات السوداء التي احترفت الجريمة تبحث، هي الأخرى، عن "أطراف ثالثة" تحمّلها مسؤولية القتل والقمع والقنص، محاولةً الظهور مثل حملان وديعة هادئة، حركة "العصائب"
قالت إن "أطرافا ثالثة" مرتبطة بأميركا وإسرائيل ودول الخليج قامت بأعمال القتل والقنص. ومليشيا حزب الله العراقي تنفي صلتها بجرائم القنص، وتبحث هي الأخرى عن "أطراف ثالثة" تحمّلها المسؤولية. وقيادة الحشد الشعبي تعلن أنها لم تشارك في قمع المتظاهرين، وهي أيضا تندّد بالأطراف الثالثة التي اقترفت أعمال القتل!
من فعل هذا كله إذاً؟ من هم "القناصون" ومن أين جاؤوا؟ من أعطاهم السلاح وخوّلهم سلطة القتل؟ تلك الأسئلة سوف تظل معلقة برقبة القتلة الذين ما زالوا يلوكون ادعاءاتهم الفارغة، في سعيهم المفتعل بحثا عمن يعلقون على مشجبه خطاياهم، وسوف يظل القتلة "المعلومون المجهولون" يمارسون حرفة القتل والخطف والاغتيال بأمان، ربما لأنهم لا يعرفون حرفة غيرها، وربما لأنهم لا يستطيعون الفكاك من أسر من دربهم وزودهم بأدوات الجريمة، وشرعن لهم القنص الحرام، إذ لا تمر ساعة واحدة من دون أن نسمع خبر استشهاد شاب على أيديهم في ساحة التحرير أو ساحة الخلاني أو على الجسور أو في الناصرية أو البصرة أو السماوة أو أية مدينة عراقية ثائرة.
إنه موسم القتل المبرمج الخاضع لأجندة سوداء، غرضها إبقاء العراق ولاية إيرانية على وفق ما يرسمه "الولي الفقيه". وهو أيضا موسم البحث عن "أطراف ثالثة" تظهر وتختفي مثل "سعلوات" شيطانية، تزرع القتل والدمار أينما حلت، ولا أحد من رجال السلطة يسألها عما تفعله أو يقيم الدليل ضدها على ما تفعله، لأن كل من في يدهم السلطة هم "أطراف ثالثة" أيضا.
هذا النفر الموسوم بالضعة والجبن هو "الطرف الثالث" الذي تشير إليه الأصابع، وليس ثمّة "طرف ثالث" غيره، وليس غيره من اقترف كل تلك الخطايا، لكنه مع كل ما فعل ويفعل ما فتئ يجهد نفسه للتنصل من تبعة تلك الجرائم وإلقائها على عناصر "معلومة مجهولة"، يزعم أنه يبحث عنها. يلقي المسؤول التنفيذي الأول، عادل عبد المهدي، اللوم على "عناصر مندسّة" يطلب منها الكف عن أعمالها الإجرامية، ويعد بالتحقيق والقبض على الفاعلين. ورئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، يدعو إلى اعتقال ومحاكمة "القناصة" التي تشكل "طرفا ثالثا". ووزير الداخلية ياسين الياسري يكرّر الأسطوانة نفسها، ملقيا المسؤولية على "أياد خبيثة" يجهلها، ونافيا أن تكون لرجال الأمن يد في حوادث القنص والقتل الممنهج. وينكر وزير الدفاع نجاح الشمري أن وزارته قد استوردت أدوات الجريمة القاتلة، ويتهم "طرفا ثالثا" باستيرادها واستخدامها في قنص المتظاهرين، وحتى محافظ البصرة ومدير شرطة الناصرية يقولان إن إطلاق النار على المتظاهرين تم "من أماكن مجهولة"، وارتكبته أطراف ثالثة، وأعلى سلطة قضائية في البلد تعد بالقبض على القتلة "المعلومين المجهولين" والاقتصاص منهم!
وحتى المليشيات السوداء التي احترفت الجريمة تبحث، هي الأخرى، عن "أطراف ثالثة" تحمّلها مسؤولية القتل والقمع والقنص، محاولةً الظهور مثل حملان وديعة هادئة، حركة "العصائب"
من فعل هذا كله إذاً؟ من هم "القناصون" ومن أين جاؤوا؟ من أعطاهم السلاح وخوّلهم سلطة القتل؟ تلك الأسئلة سوف تظل معلقة برقبة القتلة الذين ما زالوا يلوكون ادعاءاتهم الفارغة، في سعيهم المفتعل بحثا عمن يعلقون على مشجبه خطاياهم، وسوف يظل القتلة "المعلومون المجهولون" يمارسون حرفة القتل والخطف والاغتيال بأمان، ربما لأنهم لا يعرفون حرفة غيرها، وربما لأنهم لا يستطيعون الفكاك من أسر من دربهم وزودهم بأدوات الجريمة، وشرعن لهم القنص الحرام، إذ لا تمر ساعة واحدة من دون أن نسمع خبر استشهاد شاب على أيديهم في ساحة التحرير أو ساحة الخلاني أو على الجسور أو في الناصرية أو البصرة أو السماوة أو أية مدينة عراقية ثائرة.
إنه موسم القتل المبرمج الخاضع لأجندة سوداء، غرضها إبقاء العراق ولاية إيرانية على وفق ما يرسمه "الولي الفقيه". وهو أيضا موسم البحث عن "أطراف ثالثة" تظهر وتختفي مثل "سعلوات" شيطانية، تزرع القتل والدمار أينما حلت، ولا أحد من رجال السلطة يسألها عما تفعله أو يقيم الدليل ضدها على ما تفعله، لأن كل من في يدهم السلطة هم "أطراف ثالثة" أيضا.