04 نوفمبر 2024
انتفاضات بدون النكهة الإسلامية
تُرفع القبعات إجلالا للانتفاضة اللبنانية التي تبدو اليوم واثقة، وأكثر زخما وإصرارا، فاستجلبت انتباه الملايين في العالم، يتابعون عبر وسائل الإعلام و"السوشيال ميديا" تفاصيل حراكها لحظة بلحظة. ومنذ ساعاتها الأولى، بدأ نشطاء لبنانيون، وغيرهم من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي العرب، يتداولون بحماسةٍ صورا التقطت من الشارع اللبناني لشباّن منتفضين من الجنسين، في ثنائياتٍ عاشقة، في أكثر من موقف، وبأكثر من طريقة. بدا مضمون تلك الصور بالنسبة لهؤلاء تنويريا، ومتمرّدا، ودليلا على أن تلك الانتفاضة لا تطالب بالحرية السياسية فقط، بل تمتلك أيضا الجرأة للتمسّك بالحرية الاجتماعية.
أعرب متابعون كثيرون عن مدى إعجابهم بهذه الانتفاضة التي وصفوها بـأنها "حضارية"، وربما تكون من عجائب الأمور أن تلك الصور، وغيرها، دفعت بعض موالي الأنظمة ممن عارضوا الثورات في بلادهم إلى إبداء إعجابهم بانتفاضة اللبنانيين، لأنها "سينيه"، على عكس انتفاضات بلدانهم التي عارضوها، وفق رأيهم، لا دفاعا عن أخطاء تلك الأنظمة، بل نفورا من "همجية" انتفاضات شركائهم في الوطن، وماضويتها ونكهتها الإسلامية الطاغية.
ملاحظٌ أن ما باتت تعرف بالموجة الثانية من الربيع العربي التي أعقبت سقوط تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قبل ثلاث سنوات، في كل من الجزائر والسودان والعراق، وقبل أيام في لبنان، قد خلت من الشعارات المطلبية الدينية، وكان قاسمهم المشترك غياب واضح للإسلام السياسي في رسائل المحتجين، ما يعزّز قناعةً مفادها أنه لم يعد في وسع تنظيمات إسلاموية
منظّمة، وصاحبة خبرة، ومموّلة جيدا، أن تستغل الأحداث، وتملأ فراغ القيادة الثورية.
فاز الإخوان المسلمون في مصر بالسلطة بوسائل دستورية، لكنهم فشلوا في توفير الاستقرار والأمن، وفي السيطرة على المؤسسة الأمنية العسكرية، وتحقيق النمو الاقتصادي، لتستغل الدولة العميقة هذا الفشل الذي توّج بانقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي على رئيس مصر المنتخب محمد مرسي. نكّل السيسي بمعارضيه، إخوانا وغيرهم، لكن ردّات فعل المصريين على اغتيال سجون السيسي الرئيس مرسي كانت أقلّ حدّة من المتوقع، وحين نزلت الجماهير إلى الشوارع في "انتفاضة 20 سبتمبر"، بعد ثلاث شهور من وفاة مرسي، خلت شعاراتهم من أي إشارة إليه، أو إلى النسخة الإخوانية للإسلام السياسي.
الجزائر أكبر الدول العربية مساحة، وثاني أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان بعد مصر، شهدت في التسعينيات حربا أهلية بين النظام السياسي المسيطر عليه من جبهة التحرير الوطني (والجيش) والمليشيات الإسلامية المسلحة، بعد أن رفض الجيش نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 1991 التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وتحرّك الجيش لإلغائها. اتهم الطرفان بارتكاب أعمالٍ إرهابية، ومذابح جماعية، وأعمال انتقامية ضد قرى وبلدات بأكملها، قبل التوصل إلى تسويةٍ تخلّت معها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أكبر فصيل جزائري إسلاموي مسلح،
عن العنف مقابل العفو. على الرغم من هذا التاريخ الحافل برياح الأيديولوجيا الدينية، والعنف، وعنف الاستبداد المضاد، تدور اليوم مفاوضاتٌ بين المنتفضين والمؤسسة العسكرية الجزائرية، لتحقيق انتقال ديمقراطي كامل بعد 67 سنة من حكم الجيش والحزب الواحد. مشكلات البطالة، وغياب العدالة الاجتماعية، والمساواة.. يتناولها الجزائريون اليوم تحت مطلبٍ عام يتمثل في "الدولة المدنية".
في السودان، وتحت ضغط التظاهرات الشعبية، اضّطر الجيش لإقالة الرئيس عمر البشير الذي أطاح، لما كان عميدا في الجيش العام 1989، حكومة الصادق المهدي، متحالفا مع الإسلاميين بقيادة حسن الترابي (الجبهة الإسلامية القومية)، وفرض الشريعة الإسلامية على السودان. بعد ثلاثين سنة من حكمه، انتهى السودان دولة فاشلة. ومع كل المناخ الاسلاموي الذي ساد سنوات حكمه، لم يقد المفاوضات مع الجيش، بعد سقوطه، زعماء إسلاميون، بل هيئة مهنية مدنية (تجمع المهنيين السودانيين)، وكان حضور المرأة السودانية في التظاهرات المستمرّة حضورا فاعلا، وأصبح صوتها ثورة، بعد أن كان عورة، كما عبر عن ذلك أحد شعارات الثورة السودانية.
سيطر الصراع المذهبي على عراق ما بعد صدّام حسين. مع ذلك، تركّزت الاحتجاجات التي توسعت اليوم بشكل كبير، على مدار العامين الماضيين في جنوب العراق، ذي الغالبية الشيعية، ضد حكومة يسيطر عليها الشيعة. وما يشغل بال المنتفضين العراقيين لا ينتمي إلى أهداف الإسلام السياسي، ولا إلى مصالح طائفية، بل هي مطالب مدنية احتجاجا على استنزاف هائل للموارد العامة الناجمة عن الفساد على نطاق واسع. وقبل سنوات قليلة، لم يكن ممكنا تصور المتظاهرين العراقيين الشيعة يشيرون بأصابع الاتهام إلى التدخل الإيراني في شؤون بلدهم،
وتكاليفه الاقتصادية، بعد أن كانت توجّه سابقا إلى الإشارة إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) السنّي. في العراق ولبنان، اللذيّن تتنازعهما الطائفية السياسية، والصراع على الدولة في نظام من المحاصصة، تبدو قداسة رجال الدين قد تزعزعت تحت مطالب المحتجين وغضبهم، وقد أكد اللبنانيون على شعار "كلن يعني كلن" الذي أعلن، من جملة ما أعلنه، أن أي رمز سياسيٍّ لم يعد يتمتع بأي حصانة، فشهدنا تحطيما وحرقا لبعض صور هؤلاء في مشهدٍ غير مسبوق.
عنف بعض الإسلام السياسي في العالم العربي، والفشل السياسي والاجتماعي لبعضه الآخر، هزيمته أمام الاستبداد والدولة العميقة؛ عجزه عن تعميق قيم الديمقراطية والتسامح؛ شهيته لمزيد من السلطة بعد سيطرته عليها، بدل تحقيق تطلعات الشارع العربي ومعالجة قضاياه ومشكلاته؛ مصالح زعماء الطوائف، والمذاهب الدينية السياسية التي أثقلت كاهل المواطنين بالضرائب مع تراجع حاد في الخدمات.. كل ذلك، دفع شرائح واسعة من الجماهير إلى التشكيك في أن تكون نسخة هؤلاء أو أولئك من الإسلام السياسي حلا، بقدر ما أصبحت مشكلةً مضافة إلى أتون معاناتهم.
يبدو أن مستقبل الإسلام السياسي بات يتناسب عكسا مع تقدّم المتظاهرين على صعيد تحقيق أهدافهم المدنية، المرهون بالحفاظ على تنظيم فعال، وإثبات قدرتهم في إقناع الجيش والطائفة والنخب الفاسدة بالتخلي عن سلطاتهم. أما الفشل فقد يؤدي إلى مزيد من الإسلام السياسي بنسخ أكثر تشدّدا.
ملاحظٌ أن ما باتت تعرف بالموجة الثانية من الربيع العربي التي أعقبت سقوط تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قبل ثلاث سنوات، في كل من الجزائر والسودان والعراق، وقبل أيام في لبنان، قد خلت من الشعارات المطلبية الدينية، وكان قاسمهم المشترك غياب واضح للإسلام السياسي في رسائل المحتجين، ما يعزّز قناعةً مفادها أنه لم يعد في وسع تنظيمات إسلاموية
فاز الإخوان المسلمون في مصر بالسلطة بوسائل دستورية، لكنهم فشلوا في توفير الاستقرار والأمن، وفي السيطرة على المؤسسة الأمنية العسكرية، وتحقيق النمو الاقتصادي، لتستغل الدولة العميقة هذا الفشل الذي توّج بانقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي على رئيس مصر المنتخب محمد مرسي. نكّل السيسي بمعارضيه، إخوانا وغيرهم، لكن ردّات فعل المصريين على اغتيال سجون السيسي الرئيس مرسي كانت أقلّ حدّة من المتوقع، وحين نزلت الجماهير إلى الشوارع في "انتفاضة 20 سبتمبر"، بعد ثلاث شهور من وفاة مرسي، خلت شعاراتهم من أي إشارة إليه، أو إلى النسخة الإخوانية للإسلام السياسي.
الجزائر أكبر الدول العربية مساحة، وثاني أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان بعد مصر، شهدت في التسعينيات حربا أهلية بين النظام السياسي المسيطر عليه من جبهة التحرير الوطني (والجيش) والمليشيات الإسلامية المسلحة، بعد أن رفض الجيش نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 1991 التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وتحرّك الجيش لإلغائها. اتهم الطرفان بارتكاب أعمالٍ إرهابية، ومذابح جماعية، وأعمال انتقامية ضد قرى وبلدات بأكملها، قبل التوصل إلى تسويةٍ تخلّت معها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أكبر فصيل جزائري إسلاموي مسلح،
في السودان، وتحت ضغط التظاهرات الشعبية، اضّطر الجيش لإقالة الرئيس عمر البشير الذي أطاح، لما كان عميدا في الجيش العام 1989، حكومة الصادق المهدي، متحالفا مع الإسلاميين بقيادة حسن الترابي (الجبهة الإسلامية القومية)، وفرض الشريعة الإسلامية على السودان. بعد ثلاثين سنة من حكمه، انتهى السودان دولة فاشلة. ومع كل المناخ الاسلاموي الذي ساد سنوات حكمه، لم يقد المفاوضات مع الجيش، بعد سقوطه، زعماء إسلاميون، بل هيئة مهنية مدنية (تجمع المهنيين السودانيين)، وكان حضور المرأة السودانية في التظاهرات المستمرّة حضورا فاعلا، وأصبح صوتها ثورة، بعد أن كان عورة، كما عبر عن ذلك أحد شعارات الثورة السودانية.
سيطر الصراع المذهبي على عراق ما بعد صدّام حسين. مع ذلك، تركّزت الاحتجاجات التي توسعت اليوم بشكل كبير، على مدار العامين الماضيين في جنوب العراق، ذي الغالبية الشيعية، ضد حكومة يسيطر عليها الشيعة. وما يشغل بال المنتفضين العراقيين لا ينتمي إلى أهداف الإسلام السياسي، ولا إلى مصالح طائفية، بل هي مطالب مدنية احتجاجا على استنزاف هائل للموارد العامة الناجمة عن الفساد على نطاق واسع. وقبل سنوات قليلة، لم يكن ممكنا تصور المتظاهرين العراقيين الشيعة يشيرون بأصابع الاتهام إلى التدخل الإيراني في شؤون بلدهم،
عنف بعض الإسلام السياسي في العالم العربي، والفشل السياسي والاجتماعي لبعضه الآخر، هزيمته أمام الاستبداد والدولة العميقة؛ عجزه عن تعميق قيم الديمقراطية والتسامح؛ شهيته لمزيد من السلطة بعد سيطرته عليها، بدل تحقيق تطلعات الشارع العربي ومعالجة قضاياه ومشكلاته؛ مصالح زعماء الطوائف، والمذاهب الدينية السياسية التي أثقلت كاهل المواطنين بالضرائب مع تراجع حاد في الخدمات.. كل ذلك، دفع شرائح واسعة من الجماهير إلى التشكيك في أن تكون نسخة هؤلاء أو أولئك من الإسلام السياسي حلا، بقدر ما أصبحت مشكلةً مضافة إلى أتون معاناتهم.
يبدو أن مستقبل الإسلام السياسي بات يتناسب عكسا مع تقدّم المتظاهرين على صعيد تحقيق أهدافهم المدنية، المرهون بالحفاظ على تنظيم فعال، وإثبات قدرتهم في إقناع الجيش والطائفة والنخب الفاسدة بالتخلي عن سلطاتهم. أما الفشل فقد يؤدي إلى مزيد من الإسلام السياسي بنسخ أكثر تشدّدا.