30 أكتوبر 2024
قيس سعيّد ودروس تونسية للعرب
لم يكتف التونسيون بإنجاز ثورة سلمية جاءت بالتغيير وجسّدته، بل تجاوزت ذلك إلى إعطاء دروس في تجذّر التجربة الديمقراطية في منطقةٍ عرفت وتعرف استثناءً من نوع آخر، استثناء عن التغيير، واستعصاء عن التّحوّل نحو الدّيمقراطية.
لا يمكن إحصاء الدّروس التي يمكن الخروج منها ممّا جرى في تونس، مع الماراثون الانتخابي (دورتان للرئاسيات تتوسطهما تشريعيات)، من ناحية، وفوز قيس سعيد بكرسي الرئاسة، من ناحية أخرى، لأنّها تشمل الشّأن السياسي بحلقاته الكاملة من تسيير أزمة الانتقال، بعد وفاة رئيس الجمهورية، وصولا إلى ضبط الروزنامة الانتخابية بكاملها، وذلك، كله، على خلفية أمن البلاد واستقرارها، وسير طبيعي للمؤسّسات، وذلك مستفاد، أساسا، من البناء الدستوري، نظريا وعمليا، الذي تلا بناء التجربة الديمقراطية التونسية، من دون أن تترك مجالا للتشويش عليها بأيّ من الحجج، وما أكثر هذه في العالم العربي، حين يكون الأمر متعلقا بشأن يكاد يكون حصريا لنخبةٍ بعينها، الشأن السياسي الذي أقصيت منه الشعوب عقودا.
يتعلّق الأمر بخمسة دروس أساسية، يجب التّفكير فيها مليا، متصلة بالتحضير للموعد الانتخابي، بناء المؤسّسات والحصانة الدستورية للديمقراطية، مقاربة المجال الإعلامي وسقف حرياته، ضمانات احترام صوت الشعب، وصولا إلى استثناء تونسي يصنع، عاما بعد عام، ترسيخا للتجربة والتحول نحو الديمقراطية.
اتّسم التّحضير للموعد الانتخابي بسلاسةٍ وفّرتها حزمة القوانين والبناء المؤسّسي الذي تتوفّر عليه تونس، منذ إنجازها ثورة الياسمين، والتي اشترك فيها الجميع، ويريد، بكلّ حزم، الحفاظ عليها،
لتبلغ بذلك مستويات أرقى الديمقراطيات، إذ انطلقت العملية، وتمت دعوة التونسيين، بكل أطيافهم، إلى الانخراط فيها، دونما أية مشكلة من أي نوع، ما يدل على أن البناء التأسيسي حيوي في أي مسارٍ ديمقراطي، حيث لا تكفي النيات، ولا القوانين، مهما بلغت رقيّها من حيث محتواها، إذا لم ترفق بدليل سلوكيات وممارسات، يتجسّد، مرّة بعد مرّة، في المواعيد الانتخابية المختلفة مع منح المسار، كله، أدوات المناعة من الوقوع في الأخطاء، أو اجترار الممارسات البالية، وهو ما شاهدناه، ماثلا أمامنا، في تونس، وأدّى إلى ما حدث من التزام الجميع بالقوانين، والذي يقابله التطبيق الصارم للإجراءات على المخالفين، مهما كانت مراتبهم أو مواقعهم السياسية، وهي الخطوة الأولى في النّجاح في مسارٍ يدهش، ويستدعي الاقتداء.
يؤدّي هذا إلى الحديث عن بناء المؤسّسات، لأنّ ذلك يُعتبر بمثابة الحصانة الدّستورية للديمقراطية، وتعاليها عن الأشخاص والكيانات السياسية، وهو ما استطاعت تونس بلوغه في أقلّ من ثماني سنوات بعد الثورة، حيث حرص التونسيون على تعلم دروس الاستبداد الأولى، حيث يتم تغييب المؤسّسات والحصانة الدّستورية/ القانونية، وتعويم القيم في ذوات المستبدين إدامة لبقائهم في السلطة. على هذا، حرص التونسيون على المسار التأسيسي، حيث أعادوا النّظر في كل بنى الاستبداد، واقتلعوا جذوره، ليقيموا، مكانها، مؤسساتٍ تكون المانعة من الوقوع في الفوضى، في حال توفي الرئيس، وقع الفراغ الدّستوري، أو لزم الأمر تسيير مرحلة سياسية حرجة، وقد شاهدنا كيف أنّ البرلمان اجتمع، ساعاتٍ بعد وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، للإعلان عن إجراء تولّي رئيسه الرّئاسة المؤقّتة، مع الدّعوة للانتخابات المبكرة، من دون المساس، طبعا، وهذا أمر حيوي، بروزنامة الانتخابات التّشريعية التي كان الرئيس الراحل قد وقع على مرسوم استدعاء الهيئة الناخبة لها.
والأهمّ من ذلك، وهذا حيوي، بل من معايير الرّقي في التجربة الدّيمقراطية، أنّ الجيش والمؤسّسات الأمنية الأخرى لم تحاول أو تسارع إلى التشويش على هذا الإجراء السلس للتّحضير للرّئاسيات، بل كان حاميها، والمرافق لأجواء توفير الاستقرار اللاّزم لتفعيل النّصوص الدّستورية، والذّهاب بتونس إلى مستقبل آخر، ولكن في ظلّ القانون، ومسار التحوّل الذي ترسّخ بحق.
لا يمكن تصوّر نجاح التجربة الديمقراطية التونسية، من دون أن تُرفق بفتح المجال الإعلامي، لأنّه مرآة سقف الحرية المسؤولة التي تخدم البلاد، قضاياها ومواطنيها. وقد شاهد العالم العربي، مدهوشا، سلسلة اللقاءات التنافسية بين مرشحي الرئاسة، وهو مسار في سقف حرية عالٍ جدا، يثير كل الإشكاليات، حتى التابوهات الاجتماعية، أو الممنوعات عن الحديث في آفاقٍ أخرى قريبة جغرافيا من تونس. وقد بلغ سقف تلك الحرية أنّ مترّشحا من أصحاب القنوات التلفزيونية دخل المعترك الانتخابي على رئاسة الجمهورية، بل وصل إلى الدّورة الثانية، على الرّغم من كونه مسجونا، ثم، لتحقيق تكافؤ الفرص في الانتخابات، أُطلق سراحه. كما بلغ سقف تلك الحرّية درجة أنّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وهيئة تسيير المجال الإعلامي، نُصّبتا على رأس كلّ المسار الانتخابي وقراراتهما نافذة دونما نقاش. يُلاحظ، أيضا، أنّ الإعلام تم استخدامه بعدالة، تكاد تكون كاملة، للتّعريف ببرامج المترشحين، من دون تحيّز لأحد على آخر، على الرّغم من أنّ من بين المترشحين وزيرا أول حاليا، وزيرا للدفاع مستقيلا، رؤساء أحزاب نافذة، ومسؤولا كبيرا في حركة النهضة الشّريكة في الحكم، منذ الثورة، من دون أن ينسى الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، الأمر الذي يعطي للمجال الإعلامي الدرجة العالية في ترسيخ التجربة الديمقراطية التونسية.
نصل، في الدّرس الرّابع، إلى ضمانات احترام صوت الشعب، وهو تجسّد من خلال الأدوات
القانونية والدستورية والسياسية التي تكفل وصول صوت الشعب إلى صدقية الاقتراع، بل احترامه معايير الانتخابات الدّيمقراطية. ويكفي، في هذا الصدد، أننا، لأول مرة، نرى تشويقا في السباق الانتخابي، و ترقبا على مستوى الترقب الذي نراه في انتخابات الديمقراطية الغربية، حيث ينتظر الجميع ساعة معينة للإعلان عن المترشّح الفائز، أو المترشّحين المؤهلين للدورة الثانية، تماما مثل ما جرى في تونس.
في العادة، تعمل الضّمانات دور المحفّز على شفافية الانتخابات ونزاهتها، أو، في حالة غيابها، دور المعرقـل، وتُقاس الديمقراطيات، من بين أكثر من مؤشّر، بدرجة توفّر تلك الضّمانات، وهي، بالنّسبة لتونس، متوفّرة تماما، وهو ما استدعى اهتمام النّاخبين إلى الاختيار بين برامج المترشّحين وإقبالهم على المشاركة، لأنّهم يعلمون بأنّ صوتهم الذي وصل إلى الإعلام خرج من الصندوق، كما أرادوا له.
تشارك هذه العوامل/ الدروس في صنع الاستثناء التونسي في نجاح التجربة الديمقراطية في صحراء عربية واسعة، كلها استبداد أو إدامة عوامل بقائه جاثما على صدور مئات ملايين العرب. كما تعمل هذه الدروس على ترسيخ التجربة التي ستحتاج، على الرغم من ذلك كله إلى اهتمام أكبر، لأنّها وخصوصا أنّ ثمّة نقائص أدّت إلى عزوف الناخبين، بنسبة كبيرة فاقت نصف الهيئة الناخبة، عن المشاركة، وهي نسبة لا يمكن التغافل عنها، حتى مع اعتبار أن النظام التونسي ليس رئاسيا خالصا.
تلعب عوامل بقاء الأداء الاقتصادي على مستوى ضعيف، حيث البطالة واسعة والظروف الاجتماعية متردّية، دورا معرقلا لترسيخ تلك التجربة، وتهدد ذهابها إلى ترجمة آمال التونسيين في حياة أفضل، وهو ما تدل عليه نسبة العزوف المرتفعة في الانتخابات، ما جعل الطبقة السياسية تتوجّس من نتائج التشريعيات القادمة، حيث إن الاقتراع تم على مترشّحين بدون قاعدة حزبية كبيرة، بل، بالنسبة للأول في القائمة، بدون أية قاعدة حزبية.
تضاف إلى ما تمّ ذكره عوامل التدخّل الأجنبي، المتمثلة، أساسا، في دول من الإقليم، صاحبة المشاريع المضادة للثورات، وفرنسا، القوّة الكبرى التي تعمل على الإبقاء على التبعية لها، وتحول دون تحقق مشاريع الانعتاق من ربقة الاستبداد والتخلّف.
وتضافر تلك العوامل السلبية كفيل بتشكيل تهديد أمام تجذّر التجربة، ووصولها إلى منتهاها، أي صنع المناعة من الارتداد نحو الاستبداد، مرة أخرى.
تلكم الدروس التي يجب العمل على استلهامها، واستدعائها لاستكمال مسار التحرّر، وكون تونس هي من تتكفل بإعطائنا إياها يعتبر فأل خير، لأنها أول شرارة في مسار "الربيع العربي" الذي تعطل، شيئا ما، ويراد لها أن تشتعل مرة أخرى، ولعل الموجة الثانية التي شهدتها كل من السودان والجزائر من بشائر هذا الفأل.
يتعلّق الأمر بخمسة دروس أساسية، يجب التّفكير فيها مليا، متصلة بالتحضير للموعد الانتخابي، بناء المؤسّسات والحصانة الدستورية للديمقراطية، مقاربة المجال الإعلامي وسقف حرياته، ضمانات احترام صوت الشعب، وصولا إلى استثناء تونسي يصنع، عاما بعد عام، ترسيخا للتجربة والتحول نحو الديمقراطية.
اتّسم التّحضير للموعد الانتخابي بسلاسةٍ وفّرتها حزمة القوانين والبناء المؤسّسي الذي تتوفّر عليه تونس، منذ إنجازها ثورة الياسمين، والتي اشترك فيها الجميع، ويريد، بكلّ حزم، الحفاظ عليها،
يؤدّي هذا إلى الحديث عن بناء المؤسّسات، لأنّ ذلك يُعتبر بمثابة الحصانة الدّستورية للديمقراطية، وتعاليها عن الأشخاص والكيانات السياسية، وهو ما استطاعت تونس بلوغه في أقلّ من ثماني سنوات بعد الثورة، حيث حرص التونسيون على تعلم دروس الاستبداد الأولى، حيث يتم تغييب المؤسّسات والحصانة الدّستورية/ القانونية، وتعويم القيم في ذوات المستبدين إدامة لبقائهم في السلطة. على هذا، حرص التونسيون على المسار التأسيسي، حيث أعادوا النّظر في كل بنى الاستبداد، واقتلعوا جذوره، ليقيموا، مكانها، مؤسساتٍ تكون المانعة من الوقوع في الفوضى، في حال توفي الرئيس، وقع الفراغ الدّستوري، أو لزم الأمر تسيير مرحلة سياسية حرجة، وقد شاهدنا كيف أنّ البرلمان اجتمع، ساعاتٍ بعد وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، للإعلان عن إجراء تولّي رئيسه الرّئاسة المؤقّتة، مع الدّعوة للانتخابات المبكرة، من دون المساس، طبعا، وهذا أمر حيوي، بروزنامة الانتخابات التّشريعية التي كان الرئيس الراحل قد وقع على مرسوم استدعاء الهيئة الناخبة لها.
والأهمّ من ذلك، وهذا حيوي، بل من معايير الرّقي في التجربة الدّيمقراطية، أنّ الجيش والمؤسّسات الأمنية الأخرى لم تحاول أو تسارع إلى التشويش على هذا الإجراء السلس للتّحضير للرّئاسيات، بل كان حاميها، والمرافق لأجواء توفير الاستقرار اللاّزم لتفعيل النّصوص الدّستورية، والذّهاب بتونس إلى مستقبل آخر، ولكن في ظلّ القانون، ومسار التحوّل الذي ترسّخ بحق.
لا يمكن تصوّر نجاح التجربة الديمقراطية التونسية، من دون أن تُرفق بفتح المجال الإعلامي، لأنّه مرآة سقف الحرية المسؤولة التي تخدم البلاد، قضاياها ومواطنيها. وقد شاهد العالم العربي، مدهوشا، سلسلة اللقاءات التنافسية بين مرشحي الرئاسة، وهو مسار في سقف حرية عالٍ جدا، يثير كل الإشكاليات، حتى التابوهات الاجتماعية، أو الممنوعات عن الحديث في آفاقٍ أخرى قريبة جغرافيا من تونس. وقد بلغ سقف تلك الحرية أنّ مترّشحا من أصحاب القنوات التلفزيونية دخل المعترك الانتخابي على رئاسة الجمهورية، بل وصل إلى الدّورة الثانية، على الرّغم من كونه مسجونا، ثم، لتحقيق تكافؤ الفرص في الانتخابات، أُطلق سراحه. كما بلغ سقف تلك الحرّية درجة أنّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وهيئة تسيير المجال الإعلامي، نُصّبتا على رأس كلّ المسار الانتخابي وقراراتهما نافذة دونما نقاش. يُلاحظ، أيضا، أنّ الإعلام تم استخدامه بعدالة، تكاد تكون كاملة، للتّعريف ببرامج المترشحين، من دون تحيّز لأحد على آخر، على الرّغم من أنّ من بين المترشحين وزيرا أول حاليا، وزيرا للدفاع مستقيلا، رؤساء أحزاب نافذة، ومسؤولا كبيرا في حركة النهضة الشّريكة في الحكم، منذ الثورة، من دون أن ينسى الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، الأمر الذي يعطي للمجال الإعلامي الدرجة العالية في ترسيخ التجربة الديمقراطية التونسية.
نصل، في الدّرس الرّابع، إلى ضمانات احترام صوت الشعب، وهو تجسّد من خلال الأدوات
في العادة، تعمل الضّمانات دور المحفّز على شفافية الانتخابات ونزاهتها، أو، في حالة غيابها، دور المعرقـل، وتُقاس الديمقراطيات، من بين أكثر من مؤشّر، بدرجة توفّر تلك الضّمانات، وهي، بالنّسبة لتونس، متوفّرة تماما، وهو ما استدعى اهتمام النّاخبين إلى الاختيار بين برامج المترشّحين وإقبالهم على المشاركة، لأنّهم يعلمون بأنّ صوتهم الذي وصل إلى الإعلام خرج من الصندوق، كما أرادوا له.
تشارك هذه العوامل/ الدروس في صنع الاستثناء التونسي في نجاح التجربة الديمقراطية في صحراء عربية واسعة، كلها استبداد أو إدامة عوامل بقائه جاثما على صدور مئات ملايين العرب. كما تعمل هذه الدروس على ترسيخ التجربة التي ستحتاج، على الرغم من ذلك كله إلى اهتمام أكبر، لأنّها وخصوصا أنّ ثمّة نقائص أدّت إلى عزوف الناخبين، بنسبة كبيرة فاقت نصف الهيئة الناخبة، عن المشاركة، وهي نسبة لا يمكن التغافل عنها، حتى مع اعتبار أن النظام التونسي ليس رئاسيا خالصا.
تلعب عوامل بقاء الأداء الاقتصادي على مستوى ضعيف، حيث البطالة واسعة والظروف الاجتماعية متردّية، دورا معرقلا لترسيخ تلك التجربة، وتهدد ذهابها إلى ترجمة آمال التونسيين في حياة أفضل، وهو ما تدل عليه نسبة العزوف المرتفعة في الانتخابات، ما جعل الطبقة السياسية تتوجّس من نتائج التشريعيات القادمة، حيث إن الاقتراع تم على مترشّحين بدون قاعدة حزبية كبيرة، بل، بالنسبة للأول في القائمة، بدون أية قاعدة حزبية.
تضاف إلى ما تمّ ذكره عوامل التدخّل الأجنبي، المتمثلة، أساسا، في دول من الإقليم، صاحبة المشاريع المضادة للثورات، وفرنسا، القوّة الكبرى التي تعمل على الإبقاء على التبعية لها، وتحول دون تحقق مشاريع الانعتاق من ربقة الاستبداد والتخلّف.
وتضافر تلك العوامل السلبية كفيل بتشكيل تهديد أمام تجذّر التجربة، ووصولها إلى منتهاها، أي صنع المناعة من الارتداد نحو الاستبداد، مرة أخرى.
تلكم الدروس التي يجب العمل على استلهامها، واستدعائها لاستكمال مسار التحرّر، وكون تونس هي من تتكفل بإعطائنا إياها يعتبر فأل خير، لأنها أول شرارة في مسار "الربيع العربي" الذي تعطل، شيئا ما، ويراد لها أن تشتعل مرة أخرى، ولعل الموجة الثانية التي شهدتها كل من السودان والجزائر من بشائر هذا الفأل.