29 سبتمبر 2024
أربعة أسابيع هزّت الأردن
كانت البداية في محاولة نقابة المعلمين الأردنيين تنظيم احتجاج أمام مبنى رئاسة الوزراء في عمّان، للمطالبة بما قالت إنه وعد رسمي بعلاوةٍ مالية على راتب المعلم طال انتظارها. ولكن الأمور تطورت بسرعة إلى إضرابٍ غير مسبوق لمعلمي المدارس الحكومية، وإلى تضامن شعبي ونقابي وحزبي واسع معهم، اقترب، في أيامه الأخيرة، من حالة عصيان مدني، في رسالة تجاوزت تأييد المعلمين، إلى تحدٍّ علنيٍّ للقمع والاستهتار بحقوق الأردنيين، بديلاً عن معالجة الأزمة المركبّة التي تمر بها البلاد.
انتصار نقابة المعلمين، ورضوخ الحكومة لمطالبها، شكلا هزيمة موجعة للمعالجة الأمنية والتجييش الإعلامي لتجريم الإضراب، وكل من يؤيده أو يتعاطف مع مطالب المعلمين، استخدمت فيه الجهات الرسمية كل الوسائل واتهامات لوقف الإضراب، وتخويف الشارع من مؤامرةٍ يحيكها تنظيم الإخوان المسلمين لعزل المعلمين، وخنق أي محاولة لاستنهاض حركةٍ شعبيةٍ ضاقت ذرعاً بثقل هموم تدهور الأحوال المعيشية لمعظم فئات الشعب الأردني، من دون مؤشر تغيير في الأفق. وكانت النتيجة عكسية، بل أن الاستعراض الأمني، والدفع بقواتٍ من الدرك إلى الطرق المؤدية إلى مقر رئاسة الوزراء صبيحة يوم اعتصام المعلمين، 5 سبتمبر/ أيلول، وكأن هناك خطراً يتهدّد الأردن، استفزّا مشاعر الأردنيين الذين انتصروا للمعلمين، ورأوا في تحركهم تعبيراً عن هموم المواطنين كلهم. كما رأوا في اعتداء الدرك على معلمين ومعلمات في أثناء الاعتصام، وفي مراكز توقيف أمنية، إهانة ليس فقط لدور المعلم ومكانته، بل أيضاً لكرامة الأردنيين، الأمر الذي مكّنَ نقابة المعلمين من إعلان الإضراب، والاستمرار فيه.
كان الاستنفار الأمني يوم الاعتصام مؤشّراً على مخاوف من أن يطلق احتجاج المعلمين شرارة حركة اجتماعية سياسية، نتيجة تراكمات الإحباط وانتشار تعبيرات في الشارع، وعلى وسائل
الاتصال الاجتماعي، عن فقدان الثقة في الحكومة والجهات الرسمية، وتعالي شعارات طاولت الأسرة المالكة. كما كشف الاستنفار الأمني أيضاً قراءة خاطئة للمشهد الداخلي، على الرغم من كل التحذيرات والمؤشرات أن القمع الأمني يعمّق احتقان أزمة ملتهبة أصلاً، ويزيد من خطر انفجار غضب شعبي مؤجل.
كانت الحكومة غائبة في البداية. ثم حين ظهرت ونطقت، ظهرت استعلائية تجاه المعلمين، وخنوعة أمام الأجهزة الأمنية التي كانت سيدة الموقف، تدير حملة من التحشيد الذي بلغ درجة فاقعة من تخوين الإضراب وتجريمه، في صفحة مأخوذة عن تحريض الإعلام المصري في إلصاق كل شيء بخطر الإخوان المسلمين، في استغلال مخاوف قائمة من استغلال الإسلاميين أي حراك شعبي، لكن ذلك كله فشل، ولم يجد مصداقية تذكر، حتى بين أشد المناوئين للإخوان المسلمين، وإنْ ساهمت ضغوط سياسية وأمنية في انقسام النقابات المهنية، وتردّد بعضها في إشهار تأييدٍ للإضراب.
ولكن تركيز نقابة المعلمين بقي على المطلب المهني بالعلاوة، والابتعاد عن الشعارات السياسية، فوّتَ الفرصة على الأجهزة الرسمية التي لم تنجح في استقطاب تكوينات المجتمع المدني، بغض النظر عن تفاوت مواقفها من أي حراك سياسي، فأعلنت تضامنها مع حق المعلمين الدستوري بالإضراب، ورفضت بشكل قاطع التعامل الأمني، وحملت الحكومة مسؤولية تبعات مسؤولية الإضراب على تأخير السنة الدراسية. وقد أعلنت نقابة المهندسين، ثم المحامين، ومعظم الأطباء، تأييدهم غير المشروط إضراب المعلمين ونقابتهم.
ولعل الرسالة الأخطر إلى صانعي القرار في كل المشهد أن التضامن مع المعلمين أخذ أشكالاً متعدّدة، من قبيل تأييد النقابات والأحزاب والنقابات والمجتمع المدني الإضراب، ونشوء حركة فعالة لأهالي الطلبة الذين رفضوا الدعوة الحكومية المباشرة إلى إرسال أبنائهم إلى المدارس تضامناً مع المعلمين، وتجاهل الجميع قراراً للمحكمة الإدارية بتعليق الإضراب، خصوصاً وأن نقابة المعلمين تفوقت على الحكومة قانونياً، بإعلانها الاستجابة لقرار المحكمة، وقف الإضراب نهاية الأسبوع، وبدء إضراب جديد مع الأسبوع التالي، وقد يكون ذلك المؤشر الأهم، ففي سبيل كسر الإضراب، جازفت الجهات الرسمية بكسر هيبة القضاء.
في النهاية، تراجعت الحكومة، واستجابت لمطالب المعلمين، وخسرت، كما الأجهزة الرسمية،
وخاطرت باشتعال فتيل تصعيد شعبي وتحدّ للنظام نفسه، فعلى الرغم من أن نقابة المعلمين خاضت معركة مطلبية، فإن مظاهر العصيان المدني رسالة لا يمكن لأصحاب القرار تجاهلها، كما أن الحديث عن الضغوط الخارجية وعبء الديون لن يُسكت معظم الأردنيين عن الدفاع عن حقوقهم الدستورية، أو الصمت على مطالبهم. ولا يعني هذا إنكار الوضع المالي الصعب للحكومة، غير أن هناك رفضاً لتحميل المواطن الأردني عبء سنوات طويلة من الانغماس في الفساد وسياسات اللبرالية الجديدة، من عمليات خصخصة، وفقدان للمقدرات الاستراتيجية وهدر لها، وانسحاب الحكومة التدريجي من دورها في الرعاية الاجتماعية.
أعاد الاتفاق بين وزارة التربية والتعليم ونقابة المعلمين بعض الهدوء، وأنهى الإضراب، ولكن تداعيات ما جرى لن تتوقف، فصمود النقابة في وجه كل الضغوط أضحى نموذجاً لأي حراك نقابي حقوقي او سياسي قادم. كما أن نجاح الإضراب أعاد ثقة أردنيين كثيرين في قدرتهم على التغيير، خصوصاً أن هناك رفضاً واسعاً حتى بين النخب للإقصاء من دائرة المشاركة في القرار، ومن التقصير في مهمات رعاية الدولة الاجتماعية لصالح نفقات المؤسسات التابعة للديوان الملكي، فالمساءلة والمكاشفة والشفافية أصبحت شرطاً لاستعادة بعض من الثقة المفقودة، فالمطلوب الآن مؤشرات جدية وملموسة، وقد تكون أهمها إطلاق الحريات وحماية حقوق الأردنيين الاقتصادية والاجتماعية، بدلاً من الاستمرار بقبول شروط صندوق النقد الدولي.
كان تغيير الحكومات في الأردن، في السابق، ينجح في تنفيس الاحتقان، وفي استعادة الثقة، لكن ذلك لم يعد كافياً. وكان تغيير الحكومات ضمانة لحماية النظام، ولكن التعامل الرسمي مع إضراب المعلمين أخاف كثيرين، ليس من القمع الأمني، بل من أن يهدد التعامل الأمني وتجاهل جذور الأزمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية السلم الأهلي، وبالتالي ما تبقى من أي شعور بالطمأنينة والاستقرار.
وفي تغريدة له، بعد إنهاء الإضراب، حذر العاهل الأردني، عبدالله الثاني، من "أجندات " وممارسات عبثية تخللت الإضراب، وطلب بعدم تكرار ما جرى. ولن أخمن معنى التغريدة، ولكن الخشية هي أن يكون القرار الرسمي رهين تقارير أمنية مسكونة بالذعر من مؤامرات داخلية وخارجية، وتتجاهل رسائل الأسابيع الأخيرة، بما في ذلك صرخة المظلومية.. والأهم أن مظاهر العصيان كانت تعبيراً عن خوف المجتمع على الحقوق والمستقبل والوطن، وهو خوف يتضمن حرصاً على البلاد والعباد، وتسقط أمامه رهبة الحلول الأمنية.
كان الاستنفار الأمني يوم الاعتصام مؤشّراً على مخاوف من أن يطلق احتجاج المعلمين شرارة حركة اجتماعية سياسية، نتيجة تراكمات الإحباط وانتشار تعبيرات في الشارع، وعلى وسائل
كانت الحكومة غائبة في البداية. ثم حين ظهرت ونطقت، ظهرت استعلائية تجاه المعلمين، وخنوعة أمام الأجهزة الأمنية التي كانت سيدة الموقف، تدير حملة من التحشيد الذي بلغ درجة فاقعة من تخوين الإضراب وتجريمه، في صفحة مأخوذة عن تحريض الإعلام المصري في إلصاق كل شيء بخطر الإخوان المسلمين، في استغلال مخاوف قائمة من استغلال الإسلاميين أي حراك شعبي، لكن ذلك كله فشل، ولم يجد مصداقية تذكر، حتى بين أشد المناوئين للإخوان المسلمين، وإنْ ساهمت ضغوط سياسية وأمنية في انقسام النقابات المهنية، وتردّد بعضها في إشهار تأييدٍ للإضراب.
ولكن تركيز نقابة المعلمين بقي على المطلب المهني بالعلاوة، والابتعاد عن الشعارات السياسية، فوّتَ الفرصة على الأجهزة الرسمية التي لم تنجح في استقطاب تكوينات المجتمع المدني، بغض النظر عن تفاوت مواقفها من أي حراك سياسي، فأعلنت تضامنها مع حق المعلمين الدستوري بالإضراب، ورفضت بشكل قاطع التعامل الأمني، وحملت الحكومة مسؤولية تبعات مسؤولية الإضراب على تأخير السنة الدراسية. وقد أعلنت نقابة المهندسين، ثم المحامين، ومعظم الأطباء، تأييدهم غير المشروط إضراب المعلمين ونقابتهم.
ولعل الرسالة الأخطر إلى صانعي القرار في كل المشهد أن التضامن مع المعلمين أخذ أشكالاً متعدّدة، من قبيل تأييد النقابات والأحزاب والنقابات والمجتمع المدني الإضراب، ونشوء حركة فعالة لأهالي الطلبة الذين رفضوا الدعوة الحكومية المباشرة إلى إرسال أبنائهم إلى المدارس تضامناً مع المعلمين، وتجاهل الجميع قراراً للمحكمة الإدارية بتعليق الإضراب، خصوصاً وأن نقابة المعلمين تفوقت على الحكومة قانونياً، بإعلانها الاستجابة لقرار المحكمة، وقف الإضراب نهاية الأسبوع، وبدء إضراب جديد مع الأسبوع التالي، وقد يكون ذلك المؤشر الأهم، ففي سبيل كسر الإضراب، جازفت الجهات الرسمية بكسر هيبة القضاء.
في النهاية، تراجعت الحكومة، واستجابت لمطالب المعلمين، وخسرت، كما الأجهزة الرسمية،
أعاد الاتفاق بين وزارة التربية والتعليم ونقابة المعلمين بعض الهدوء، وأنهى الإضراب، ولكن تداعيات ما جرى لن تتوقف، فصمود النقابة في وجه كل الضغوط أضحى نموذجاً لأي حراك نقابي حقوقي او سياسي قادم. كما أن نجاح الإضراب أعاد ثقة أردنيين كثيرين في قدرتهم على التغيير، خصوصاً أن هناك رفضاً واسعاً حتى بين النخب للإقصاء من دائرة المشاركة في القرار، ومن التقصير في مهمات رعاية الدولة الاجتماعية لصالح نفقات المؤسسات التابعة للديوان الملكي، فالمساءلة والمكاشفة والشفافية أصبحت شرطاً لاستعادة بعض من الثقة المفقودة، فالمطلوب الآن مؤشرات جدية وملموسة، وقد تكون أهمها إطلاق الحريات وحماية حقوق الأردنيين الاقتصادية والاجتماعية، بدلاً من الاستمرار بقبول شروط صندوق النقد الدولي.
كان تغيير الحكومات في الأردن، في السابق، ينجح في تنفيس الاحتقان، وفي استعادة الثقة، لكن ذلك لم يعد كافياً. وكان تغيير الحكومات ضمانة لحماية النظام، ولكن التعامل الرسمي مع إضراب المعلمين أخاف كثيرين، ليس من القمع الأمني، بل من أن يهدد التعامل الأمني وتجاهل جذور الأزمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية السلم الأهلي، وبالتالي ما تبقى من أي شعور بالطمأنينة والاستقرار.
وفي تغريدة له، بعد إنهاء الإضراب، حذر العاهل الأردني، عبدالله الثاني، من "أجندات " وممارسات عبثية تخللت الإضراب، وطلب بعدم تكرار ما جرى. ولن أخمن معنى التغريدة، ولكن الخشية هي أن يكون القرار الرسمي رهين تقارير أمنية مسكونة بالذعر من مؤامرات داخلية وخارجية، وتتجاهل رسائل الأسابيع الأخيرة، بما في ذلك صرخة المظلومية.. والأهم أن مظاهر العصيان كانت تعبيراً عن خوف المجتمع على الحقوق والمستقبل والوطن، وهو خوف يتضمن حرصاً على البلاد والعباد، وتسقط أمامه رهبة الحلول الأمنية.
دلالات
مقالات أخرى
22 سبتمبر 2024
15 سبتمبر 2024
08 سبتمبر 2024