هل ينجح بايدن في إنجاز تطبيع سعودي إسرائيلي؟
تبدو إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، في سباق مع الزمن، لإنجاز معاهدة تطبيع سعودي إسرائيلي، قبل خروجه من البيت الأبيض، وهو ما كان أولوية له منذ بدء ولايته قبل أربع سنوات. فقد أعلن وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، الخميس الماضي (5 سبتمبر/ أيلول الجاري) أن من الممكن إبرام معاهدة بين السعودية وإسرائيل، قبل نهاية السنة الحالية إذا أمكن الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزّة.
لذا؛ لا علاقة للهفة الأميركية على وقف إطلاق النار بإنهاء الحرب أو بوقف معاناة الشعب الفلسطيني، وإنما بإقناع الرياض بالتطبيع الرسمي والعلني مع تل أبيب. ... قبل ذلك، كان الوعد الأميركي بدعم إقامة دولة فلسطينية مقابل تطبيع سعودي إسرائيلي، وقد جرى تأكيد أن الرياض تصرّ على هذا الشرط أيضاً، وإن كان هذا مجرّد خدعة؛ إذ تعارض أميركا حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وتشترط أن يكون مستقبل الشعب الفلسطيني مرهوناً بموافقة إسرائيلية. وهي ما تزال تحاول أن تنفذ التطبيع المأمول، بعد ما كانت تعتقد أنه على وشك التحقّق، لولا انطلاقة "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر (2023)، ولم تيأس، بل استمرّت زيارات بلينكن تل أبيب والرياض لإيجاد صيغة توافق عليها السعودية.
لنتذكّر هنا أن الولايات المتحدة لا تتحدّث عن إنهاء حرب الإبادة الصهيونية ضد أهل غزّة، وإنما عن وقف لإطلاق نار لا ينهي الحرب، ويترك القرار بيد إسرائيل. مع ذلك، وقف إطلاق النار هو ما يسعى إليه الفلسطينيون ويأملونه، فالمجازر والتجويع لا ينتهيان، واستعمال واشنطن وقف إطلاق النار جزرة تمدّها إلى السعودية يعكس مدى الاستهتار بحياة الفلسطينيين، إذ لا يهمّها سوى مصالحها، فضلاً عن أن بايدن يريد إنجازاً لولاية ضعيفة وهزيلة، باستثناء الاستقواء على الفلسطينيين والمشاركة في حرب الإبادة ضدهم.
تعارض أميركا حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وتشترط أن يكون مستقبل الشعب الفلسطيني مرهوناً بموافقة إسرائيلية
التطبيع مع السعودية مفتاح لتطبيع عربي إسرائيلي شامل، وترسيم تحالف عسكري إسرائيلي عربي تقوده أميركا، تمهيداً لإدماج إسرائيل في المنطقة وتصفية القضية الفلسطينية. ولكن، لأميركا أهداف أخرى من استكمال حلقة التطبيع العربي الإسرائيلي، فبدونه لا تستطيع إضعاف مشروع الجسر البرّي الصيني (طريق الحرير الجديد)، وتقويض نفوذ روسيا، والأهم الصين، في المنطقة. لذا؛ عرضت على السعودية ما وصفتها "الصفقة الكبرى" التي تشمل معاهدة دفاع استراتيجي مع الرياض، ومعاهدة تطبيع سعودية - إسرائيلية، وإفساح الطريق لدولة فلسطينية مستقلة. ونرى تصوير هذا العرض كأنه عرض سخي للسعودية، لكن بدون ضمان إقامة دولة فلسطينية، فليس هناك التزام أو وعد، وإنما كلمات تتركها لحليفتها إسرائيل لتفسرها كما تريد.
وإذا ما اقترب موعد معاهدة تطبيع سعودية إسرائيلية، فسيضج الإعلام بتصريحات وتحليلات، إن وقف إطلاق النار و"إفساح الطريق لدولة فلسطينية" كانا شرطي التطبيع السعودي مع إسرائيل، أي إن الرياض حققت مطلباً فلسطينياً مقابل التطبيع، تماماً كما جرى ترويج امتناع إسرائيل عن ضم الضفة الغربية مقابل الاتفاقيات الإبراهيمية عام 2020، ولا يهم إذا التزمت إسرائيل التي لم تتخلّ عن خطتها لضم الضفة الغربية أو رفض تأسيس دولة فلسطينية، أو لم تلتزم. لذا؛ جُلُّ تركيز واشنطن حالياً هو الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق نار، ولو خرقته إسرائيل بعد حين، حتى توقّع السعودية معاهدة "سلام" مع إسرائيل، لكن سعي واشنطن إلى اتفاق وقف إطلاق النار، على أهميته في ما يخص أهدافها، لا يمنعها من محاولة فرض شروط إسرائيل.
مؤشّرات خطرة على تطبيع العقول قبل ترسيم المعاهدات والاتفاقيات
والإشارة هنا إلى أن أوساطاً في واشنطن، كما بدا في تقارير صحافية، كانت تخشى أن يؤثر العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزّة على مسار التطبيع العربي الإسرائيلي. ولكن أي دولة عربية لم تهدّد بتجميد التطبيع مع إسرائيل أو وقفه. وهذا ما جعل واشنطن تستمر في الضغط للتوصل إلى تطبيع سعودي إسرائيلي، وكما بينتُ في مقال سابق في "العربي الجديد" (هل بدأ ترسيم حلف ناتو عربي إسرائيلي/ 16/6/2024)، أن أميركا باشرت بخطوات تأسيس لحلف عسكري عربي إسرائيلي، في اجتماع لقادة جيوش عربية وإسرائيل بتنسيق من القيادة المركزية للقوات الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط (سينتكوم) في 13 يونيو/ حزيران الماضي في المنامة.
على الرغم من كل ما سبق، يعرقل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وإن كان من أشد المتحمّسين للتطبيع مع السعودية، الجهود الأميركية بأفعاله، فإصراره على التمسّك بالسيطرة على محور صلاح الدين (فيلادلفيا) في غزّة، ما يخالف اتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر، أغضب ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي أعلن تضامنه مع القاهرة ودعمه رفضه ما أعلنه نتنياهو. وقضية هذا المحور مؤشّر، ويحب أن يكون إنذاراً للسعودية من "كذبة" اتفاقيات السلام مع إسرائيل، وتذكيراً لمصر والأردن بشكل خاص، المهدَّدتين بشكل مباشر من قبل إسرائيل، بأنه لا اتفاقيات سلام أو تطبيع يحميها من مخططات إسرائيل. ولكن لا من يرى أو يسمع أو يتذكّر، في وقت أقنعت بعض الأنظمة نفسها بأن تمسّكها بالعلاقات مع إسرائيل ضمانة لاستمرارها، بغضّ النظر عن حجم الدمار والخسائر وصور الأطفال القتلى والجرحى والتائهين بين أنقاض البيوت في غزّة.
العقبة الحقيقية أمام كل قوى الخنوع أن القضية الفلسطينية باقية، وتحظى بشرعية أخلاقية بشكل غير مسبوق في العالم
قد تنجح أميركا أو قد لا تنجح، والأرجح أن يخرّب نتنياهو عملها على التطبيع مع السعودية، ليس لأنه لا يريده، وإنما لا يريد أن يتخلّى عن شروطه ولا حربه ولا ما يعتقد أنها فرصته بإلحاق هزيمة ساحقة ضد الشعب الفلسطيني. والمشكلة أنه حتى لو فشلت واشنطن في هذا قبل نهاية العام الحالي، فإنها تفرض خطوات تطبيعية بين السعودية وإسرائيل على شكل تعاون في مجالات التكنولوجيا والترفيه وتعديل المناهج حيال القضية الفلسطينية تساهم في تشويه وعي السعوديين وتغييره، كما فعلت وتفعل في أكثر من دولة عربية. فلا يكفي رفض توقيع اتفاقية شاملة الاتفاقيات الإبراهيمية، كما تريد أميركا، بل ينبغي رفض شراكات مع مؤسّسات إسرائيلية حتى لا يصبح التطبيع أمراً واقعاً تنقصُه مراسم التوقيع، فقد بدأت أصوات ترتفع في السعودية تؤيد إسرائيل وتتماهى مع ادّعاءاتها، إضافة إلى تغطية قناة العربية التي يبدو أنها تريد أن تثبت أنها تجنح إلى السلام في حين أن المقاومة الفلسطينية تصرّ على افتعال الحرب مع إسرائيل، وهذه كلها مؤشّرات خطرة على تطبيع العقول قبل ترسيم المعاهدات والاتفاقيات.
لم يعُد أي شيء مستغرباً، فالصمت على محاولة إبادة شعب يدلّ على أنه لولا تهوّر نتنياهو وصفاقته ووقاحته العلنية واحتقاره الدول العربية لشهدنا مراسم كثيرة لتوقيع معاهدات، ولربما احتفالات... العقبة الحقيقية أمام كل قوى الخنوع أن القضية الفلسطينية باقية، وتحظى بشرعية أخلاقية بشكل غير مسبوق في العالم، وهذا سبب آخر يدفع أميركا إلى الإصرار على التطبيع، وهو سببٌ آخر يدفعنا إلى الدعوة إلى مقاومة التطبيع.