18 أكتوبر 2024
تركيا والكرد السوريون
استطاعت تركيا أن تجعل من الثورة السورية فرصةً "قوميةً" لها. وهي في عمليتها العسكرية اليوم في شرق الفرات، أو منطقة الجزيرة السورية، تحاول أن تستثمر أكثر في الفرصة السورية. تبغي اليوم الإمعان أكثر في استغلال هشاشة "البنيان السوري" كي تزيده هشاشةً، وتجعل من سوريين "غير أكراد"، أطلقوا على أنفسهم اسم "الجيش الوطني" الذي لا نصيب له من اسمه، فهو يفتقد الاستقلالية، وسيلةً لإحداث مزيد من الضعضعة في النسيج الوطني السوري، من خلال ضرب الوطنية السورية، وتعميق التنافر العربي الكردي، في سبيل تحقيق هدف تركي.
يهرب هذا "الجيش الوطني" من حقيقة علاقة التبعية التامة له مع تركيا، فيسمّيها علاقة تحالف. في هذا "التحالف" لا يجد المرء جواباً عن أسئلة مثل: لماذا لا تتجه بندقية "الجيش الوطني" إلا إلى حيث تريد تركيا؟ لماذا لا يدعم الحليف التركي هؤلاء من أجل تخليص إدلب من جبهة النصرة والتنظيمات الإسلامية الجهادية الأخرى التي نمت على حساب الثورة، وشكّلت، ولا تزال، التغطية السياسية الأبرز لعمليات قصف المنطقة من النظام السوري وحلفائه؟ بأي معنى تشكل معركة شرق الفرات مناصرةً للثورة السورية؟ وما هي أولويتها؟
لم يشكل الكرد في سورية تهديداً لأمن الدولة التركية طوال سنوات الصراع الماضية، هذا ما
يعرفه الجميع، والأتراك من باب أولى. وليس التهديد الكردي المزعوم الذي تحدث عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من على منبر الأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي، هو ما يحرّك العملية العسكرية التركية اليوم. ما يحرك الاجتياح التركي لمناطق الوجود الكردي في سورية هو، في الواقع، الوزن المعنوي والسياسي العالمي الذي حققته الوحدات العسكرية التي يغلب عليها العنصر الكردي، من خلال نجاحهم في المعارك القاسية والطويلة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، المكنى داعش، وتضحيتهم بعشرات آلاف المقاتلين في هذه المعارك، بالترافق مع امتلاكهم مقومات إدارة ذاتية ووجود قوة كردية معادية لتركيا (معادية للسياسة التركية تجاه الكرد) على رأس هذه الإدارة. فضلاً عن سعي حزب العدالة والتنمية (الحاكم) إلى شد العصب التركي حول "الزعيم" من خلال تعزيز صورة آخر أو عدو "إرهابي"، واستعراض القدرة على سحقه.
لا يمكن إنكار الإنجاز العسكري الذي حققته قوات سورية الديمقراطية (قسد)، والذي أكسبها ثقة أطراف التحالف الدولي المضاد لتنظيم داعش، إلى حد جعل قرار البيت الأبيض بمثابة صدمة، سواء لحلفاء واشنطن، أو لمؤسسات الإدارة الأميركية نفسها. ولا يمكن إنكار القدرة التي أظهرها الكرد السوريون على إدارة شؤون المناطق التي سيطروا عليها، وعلى إدارة شؤون المخيمات والسجون التي تحتجز مقاتلي "داعش" الذين يقدّر عددهم بعشرة آلاف، منهم حوالي ألفي أجنبي. وإذا تجاوزنا الآن عما تناقلته التقارير من أعمال عنف وتهجير وتجنيد للأطفال، قامت بها قوات "قسد" في مناطق سيطرتها، وعما تنقله الأخبار من سياساتٍ تعليميةٍ تحابي العنصر الكردي على حساب العربي. وإذا تجاوزنا عما نراه خطأ جوهرياً في المقاربة العامة لحزب الاتحاد الديمقراطي (بي واي دي) الذي ينظر إلى سورية من منظار كردي، بدلاً من أن ينظر إلى الموضوع الكردي من منظار سوري، نقول إذا تجاوزنا عن هذا كله، فإن الكرد في شرق الفرات شكلوا نموذجاً لا يريح تركيا، ولا يريح بالطبع النظام السوري، وليس مفاجئاً أن نجد هذين الأخيرين، على الرغم من العداوة المعلنة بينهما، في موقف واحد تجاه التجربة الكردية السورية.
يقود ما سبق إلى نتيجة مؤدّاها أن المنطقة الآمنة المزمعة، إذا أتيح لها أن ترى النور، وعلى الرغم مما تمثله من تعد على التكوين الديموغرافي والاجتماعي لإبعاد "الخطر" الكردي، بحسب المزاعم التركية، لن تكون كافيةً تماماً لإشباع نزعة الهيمنة التركية التي قد تهدأ فقط حين يكف الكرد السوريون تماماً عن أن يكونوا كردستانيين. أو بكلام آخر، حين تسبق سوريتهم كرديتهم، ويخفت حلمهم القومي الذي ينخس الخاصرة القومية التركية (كما خفت الحلم القومي العربي) لصالح أولوية وطنية سورية، فلا يشكلون نقطة ارتكاز، أو منطلق محتمل لأي تطلعات تحرّرية للكرد في تركيا. باختصار، تريد تركيا من الكرد السوريين فك العقدة الكردية السورية عن العقدة الكردية التركية، عندئذ يتحول الكرد السوريون إلى سوريين كرد، وتكفّ المناطق الكردية في سورية عن أن تكون غرب كردستان، وتتضاءل الأرضية التي يمكن أن يبنى عليها التصور السياسي الذي تكون فيه تركيا العدو الأول بالنسبة للكرد السوريين.
هل يمكن لأبناء هذه المساحة الجغرافية المسمّاة سورية أن يغلّبوا سوريتهم على هوياتهم القومية المتنوعة؟ قد يكون عسيراً علينا تقبل ذلك. ولكن أليس من المفارقة أن يكون المكان الذي يشعر فيه الكرد السوريون بسوريتهم أكثر هو المكان الأكثر كرديةً في المنطقة، أقصد كردستان العراق؟ فهناك، بحسب مرويات اللاجئين الكرد السوريين، يتعارفون على اللاجئ الكردي بأنه سوري، فتضمحل كرديّته أمام سوريته ويخضع لمعاملة تمييز سلبي بوصفه سورياً. هل نجد مفارقةً اليوم حين نرى هذا الرفض الذي يصل إلى حدود العنصرية، ضد السوريين العرب في بلد عربي هو الأقرب إلى سورية جغرافياً وثقافياً؟ هل نرى مفارقةً في امتناع الدول "العربية" عن استقبال اللاجئين "العرب" السوريين في ذروة مأساتهم؟
ليس من الصعب ملاحظة أن الهوية الوطنية السورية تطمس الهويات القومية المتنوعة لحاملي
الجنسية السورية، حتى في عيون من يشاركونهم "قومياتهم"، أو قل في عيون هؤلاء بشكل خاص. ولكن ليس من السهل الاعتراف بهذه الحقيقة التي، بلا شك، تكوي الحلم "القومي" لكل منا.
بعد كل شيء، من الراجح أن يتطوّر التدخل العسكري التركي في شرقي الفرات إلى مأزق للرئيس أردوغان، نظراً إلى الموقف الأوروبي غير المؤيد، وإلى القيود الأميركية الناجمة عن عدم وحدة الموقف الأميركي وعدم ثباته، إضافة إلى احتمال طول أمد الحرب، بفعل غياب سلاح الطيران عنها، وبفعل خبرة مقاتلي "قسد" وكفاحيتهم، الأمر الذي ستترتب عليه خسائر بشرية كبيرة، سوف تزيد في العبء السياسي التركي، وتحيل "المنطقة الآمنة" المأمولة إلى منطقة ملغومة بالأحرى.
أما في سورية، فإن الراجح أن تكون نتيجة هذا الغزو مكسباً لنظام الأسد الذي يمكنه أن يأمل اليوم بأن يستعيد، على يد الجيش التركي وأتباعه، وبمعونة حليفه الروسي، جزءاً آخر من أرضه المفقودة. فضلاً عن منطقة إدلب التي لا بد أن ترتيباتها دخلت في تسويةٍ روسيةٍ تركية، في مقابل موقف روسي من العملية العسكرية التركية.
لم يشكل الكرد في سورية تهديداً لأمن الدولة التركية طوال سنوات الصراع الماضية، هذا ما
لا يمكن إنكار الإنجاز العسكري الذي حققته قوات سورية الديمقراطية (قسد)، والذي أكسبها ثقة أطراف التحالف الدولي المضاد لتنظيم داعش، إلى حد جعل قرار البيت الأبيض بمثابة صدمة، سواء لحلفاء واشنطن، أو لمؤسسات الإدارة الأميركية نفسها. ولا يمكن إنكار القدرة التي أظهرها الكرد السوريون على إدارة شؤون المناطق التي سيطروا عليها، وعلى إدارة شؤون المخيمات والسجون التي تحتجز مقاتلي "داعش" الذين يقدّر عددهم بعشرة آلاف، منهم حوالي ألفي أجنبي. وإذا تجاوزنا الآن عما تناقلته التقارير من أعمال عنف وتهجير وتجنيد للأطفال، قامت بها قوات "قسد" في مناطق سيطرتها، وعما تنقله الأخبار من سياساتٍ تعليميةٍ تحابي العنصر الكردي على حساب العربي. وإذا تجاوزنا عما نراه خطأ جوهرياً في المقاربة العامة لحزب الاتحاد الديمقراطي (بي واي دي) الذي ينظر إلى سورية من منظار كردي، بدلاً من أن ينظر إلى الموضوع الكردي من منظار سوري، نقول إذا تجاوزنا عن هذا كله، فإن الكرد في شرق الفرات شكلوا نموذجاً لا يريح تركيا، ولا يريح بالطبع النظام السوري، وليس مفاجئاً أن نجد هذين الأخيرين، على الرغم من العداوة المعلنة بينهما، في موقف واحد تجاه التجربة الكردية السورية.
يقود ما سبق إلى نتيجة مؤدّاها أن المنطقة الآمنة المزمعة، إذا أتيح لها أن ترى النور، وعلى الرغم مما تمثله من تعد على التكوين الديموغرافي والاجتماعي لإبعاد "الخطر" الكردي، بحسب المزاعم التركية، لن تكون كافيةً تماماً لإشباع نزعة الهيمنة التركية التي قد تهدأ فقط حين يكف الكرد السوريون تماماً عن أن يكونوا كردستانيين. أو بكلام آخر، حين تسبق سوريتهم كرديتهم، ويخفت حلمهم القومي الذي ينخس الخاصرة القومية التركية (كما خفت الحلم القومي العربي) لصالح أولوية وطنية سورية، فلا يشكلون نقطة ارتكاز، أو منطلق محتمل لأي تطلعات تحرّرية للكرد في تركيا. باختصار، تريد تركيا من الكرد السوريين فك العقدة الكردية السورية عن العقدة الكردية التركية، عندئذ يتحول الكرد السوريون إلى سوريين كرد، وتكفّ المناطق الكردية في سورية عن أن تكون غرب كردستان، وتتضاءل الأرضية التي يمكن أن يبنى عليها التصور السياسي الذي تكون فيه تركيا العدو الأول بالنسبة للكرد السوريين.
هل يمكن لأبناء هذه المساحة الجغرافية المسمّاة سورية أن يغلّبوا سوريتهم على هوياتهم القومية المتنوعة؟ قد يكون عسيراً علينا تقبل ذلك. ولكن أليس من المفارقة أن يكون المكان الذي يشعر فيه الكرد السوريون بسوريتهم أكثر هو المكان الأكثر كرديةً في المنطقة، أقصد كردستان العراق؟ فهناك، بحسب مرويات اللاجئين الكرد السوريين، يتعارفون على اللاجئ الكردي بأنه سوري، فتضمحل كرديّته أمام سوريته ويخضع لمعاملة تمييز سلبي بوصفه سورياً. هل نجد مفارقةً اليوم حين نرى هذا الرفض الذي يصل إلى حدود العنصرية، ضد السوريين العرب في بلد عربي هو الأقرب إلى سورية جغرافياً وثقافياً؟ هل نرى مفارقةً في امتناع الدول "العربية" عن استقبال اللاجئين "العرب" السوريين في ذروة مأساتهم؟
ليس من الصعب ملاحظة أن الهوية الوطنية السورية تطمس الهويات القومية المتنوعة لحاملي
بعد كل شيء، من الراجح أن يتطوّر التدخل العسكري التركي في شرقي الفرات إلى مأزق للرئيس أردوغان، نظراً إلى الموقف الأوروبي غير المؤيد، وإلى القيود الأميركية الناجمة عن عدم وحدة الموقف الأميركي وعدم ثباته، إضافة إلى احتمال طول أمد الحرب، بفعل غياب سلاح الطيران عنها، وبفعل خبرة مقاتلي "قسد" وكفاحيتهم، الأمر الذي ستترتب عليه خسائر بشرية كبيرة، سوف تزيد في العبء السياسي التركي، وتحيل "المنطقة الآمنة" المأمولة إلى منطقة ملغومة بالأحرى.
أما في سورية، فإن الراجح أن تكون نتيجة هذا الغزو مكسباً لنظام الأسد الذي يمكنه أن يأمل اليوم بأن يستعيد، على يد الجيش التركي وأتباعه، وبمعونة حليفه الروسي، جزءاً آخر من أرضه المفقودة. فضلاً عن منطقة إدلب التي لا بد أن ترتيباتها دخلت في تسويةٍ روسيةٍ تركية، في مقابل موقف روسي من العملية العسكرية التركية.