المغرب.. من الربيع إلى الجمر

18 يوليو 2018
+ الخط -
خرجت، في الأسبوعين الماضيين، مسيرتان كبيرتان في الدار البيضاء والرباط، للاحتجاج على الأحكام القاسية التي صدرت في حق قادة "حراك الريف" (شمال المغرب)، وتجاوز مجموع سنوات السجن التي نطقت بها ثلاثة قرون موزعة على 53 معتقلا يوجدون رهن الاعتقال منذ أكثر من سنة. ورفع المتظاهرون في المسيرتين شعارات تطالب بإطلاق سراح المعتقلين، وتحذر من عودة "سنوات الجمر والرصاص" التي ترمز في المغرب إلى سنوات القمع والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عرفها المغرب طوال ستينيات القرن الماضي وسبعينياته وثمانينياته.
وقد جاءت الأحكام القاسية في حق معتقلي "حراك الريف"، وقبلها القمع والاعتقالات الذي طاولت نشطاء الحركات الاجتماعية التي شهدتها عدة مناطق تعاني التهميش والفقر في المغرب، لتذكّر المغاربة بماضٍ أليم، اعتقد كثيرون أنه دفن، وأصبح بلا رجعةٍ مع تنصيب المغرب عام 2005 "هيئة الإنصاف والمصالحة"، وهي هيئة رسمية أنشئت أصلا لقراءة صفحة ذلك الماضي وطيها إلى الأبد، حتى لا يتكرر ما جرى فيه. ولذلك، كان يُعتقد أن "الربيع المغربي" لم يبدأ مع انطلاق شرارة "الربيع العربي" من تونس، وإنما نُثرت بذوره مع تصالح المغاربة مع ماضيهم الأليم... كيف انتقل المغاربة من جو "الربيع" فجأة ليجدوا أنفسهم في مواجهة خطر عودة سنوات الجمر والرصاص التي لم تندمل جراحها بعد؟
عندما تولى الملك محمد السادس المُلك خلفا لوالده الراحل الحسن الثاني عام 1999، كان أهم مشروع دشّن به حكمه هو توطيد شرعيته الشعبية، بتصفية الرأسمال السلبي من تركة والده، والمتمثل في سجل الانتهاكات الجسيمة التي ارتُكبت طوال عهده الذي استمر زهاء 38 سنة.
 وأنشأ "هيئة الإنصاف والمصالحة" التي كانت مهمتها تتمثل في تسوية ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المرتكبة بين 1956، تاريخ استقلال المغرب، و1999 العام الذي توفي فيه الملك الراحل. وكانت الغاية من اختيار هذه الفترة مسح صفحة الماضي وفتح صفحة بيضاء جديدة. وفي بداية حكم الملك محمد السادس، اعتقد مغاربة كثيرون أن مرحلة جديدة قد بدأت، وحملت تلك البداية عنوانا جذابا هو "العهد الجديد". لكن الأمر كان مجرد عملية "ماركتينغ سياسي" كبيرة، لتأمين الانتقال من عهد ملك إلى عهد ملك جديد، ولم يسفر عن "انتقال ديمقراطي" حقيقي، وسرعان ما عادت الأساليب القديمة نفسها في الحكم التي تعتمد على القمع والتضييق على الحريات، واعتقال المعارضين، وإعطاء الأولوية للمقاربة الأمنية في حل المشكلات، ومواجهة التحديات، إلى جدول أعمال التدبير اليومي للسلطة.
فوّت المغرب فرصتين كبيرتين ومواتيتين لطيّ صفحة الماضي الأليم. كانت الأولى مع تولي الملك الحالي السلطة. والثانية مع الهزة التي أحدثها "الربيع العربي"، ووصل صداها إلى المغرب، فقد حملت الرسائل والإشارات التي أطلقتها السلطة، في المناسبتين، آمالا كثيرة في مغربٍ جديدٍ، لا مكان فيه لممارسات مظلمة سادت في الماضي. ولكن للأسف، عشية الذكرى العشرين لوصول الملك محمد السادس إلى الحكم، تبدّد كثير من تلك الآمال، وتعتبر الأحداث التي عاشها المغرب خلال السنتين الماضيتين، وما واكبها من اعتقالات في مناطق عدة من المغرب المهمش والمنسي، والإدانات الأخيرة لنشطاء كثيرين، موجات جديدة من "الحراك الاجتماعي" بمثابة خطوة كبيرة إلى الوراء، تُنذر بعودة ممارسات الماضي التي وسمت ما سميت في المغرب "سنوات الجمر والرصاص".
عاش المغرب، ومنذ عام 2013، عدة تراجعات كبيرة على مستوى الحقوق والحريات، واستعملت أساليب مختلفة مبتكرة وماكرة، وأحيانا ناعمة، لإخراس أصوات كثيرة منتقدة ومزعجة في مجال الصحافة والمجتمع المدني، وحتى داخل البرلمان، وتم التضييق على حرية الرأي والتعبير، وتحولت التعدّدية الحقيقية التي كانت تميز الحياة السياسية في المغرب إلى مجرد واجهة مزيفة للتسويق لصورة المغرب في الخارج، بينما يعكس الواقع في الداخل صورةً أخرى حزينةً ومؤلمة.
ما زال هذا التحول الفجائي في مزاج السلطة المتقلب في المغرب يطرح علامات استفهامٍ واستغرابٍ كثيرة، حتى لدى أقرب المحللين إلى هذه السلطة، لأنهم لا يفهمون أو على الأقل لا يستطيعون أن يفسّروا أو يبرروا لجوءها إلى أساليب القمع القديمة لمواجهة مشكلات أو تحديات عادية، كان يمكن حلها بطرق غير مكلفة سياسيا واقتصاديا على المستويين، الواقعي والرمزي.
نشرت، قبل أيام، صحيفة لوموند الفرنسية مقالا قاسيا يصف ما يحصل في المغرب بـ
"الخطوات الحزينة إلى الوراء"، وعدّدت "النكسات المتعاقبة" التي شهدتها حرية الصحافة وحرية التنظيم، وحرية التظاهر، طوال السنوات القليلة الماضية، والتي جوبهت كلها بالقمع والمحاكمات والإدانات الثقيلة والتضييق، وبمزيد من الضبط لمراقبة الفضاء العام. ووصفت الصحيفة الفرنسية التي عرفت بخطها التحريري المهادن مع السلطة في المغرب طوال السنوات الأخيرة لجوء هذه السلطة كل مرة إلى استعمال المقاربة الأمنية، لمواجهة مطالب الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كمن يحاول ترقيع "سقف آيل للانهيار".
ما تقوم به السلطة اليوم في المغرب هو عملية استهلاك لرصيدها الرمزي الذي راكمته خلال العقدين الماضيين، والذي نجح في تقديم المغرب إلى الخارج نموذجا استثنائيا وسط منطقة تحبل بالمتغيرات. لكن، مع توالي النكسات التي تَستنفد هذا الرصيد، يتساءل كثيرون محاولين فهم "حالة الانفصام" التي يعاني منها عقل هذه السلطة: هل فعلا يتعلق الأمر ببرمجة قديمة على القمع يصعب التخلص من آثارها؟ أم بطبع استبدادي متجذّر في الخلايا الجذعية لهذه السلطة؟ أم فقط بإرادة سياسية متثاقلة، لا تستطيع مجاراة الإرادة الشعبية المتسارعة؟ أسئلة تُترك الإجابة عنها للأيام القليلة المقبلة، في انتظار أن يتكلم الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 19 لتوليه الملك، والتي ستحل نهاية شهر يوليو/ تموز الحالي.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).