ماكرون ضحيّة فِخاخه
قبل أسبوعين من الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عقب انتخابات البرلمان الأوروبي التي سجّلت صعوداً كبيراً لليمين المتطرّف الذي حلّ متقدّما على الحزب الحاكم وأغلبيته داخل البرلمان، تعيش فرنسا حالة من الاستقطاب السياسي والإيديولوجي الحادّ بين اليمين المتطرّف، المتنامي والمنتشي بانتصاره في الانتخابات الأوروبية، واليسار بكل أطيافه الذي أذاب كل خلافاته واتّحد داخل كتلة واحدة تحت شعار "الجبهة الشعبية الجديدة". وفي ظل حالة الاستقطاب الحادّ داخل الساحة السياسية الفرنسية، الخوف الأكبر الذي يخشاه حلفاء ماكرون أن يجدوا أنفسهم عالقين ومسحوقين بين هاتين الكتلتين الكبيرتين، ومع بقاء ما يقلّ قليلاً عن أسبوعين قبل الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية المقرّرة في 30 يونيو/ حزيران الجاري، يسارع مناصرو الرئيس الزمن خلال الحملة الانتخابية القصيرة لشقّ طريقٍ ثالثٍ بين توجّه اليمين المتطرّف المتمثل في "التجمّع الوطني" واليسار الراديكالي المتحد داخل "الجبهة الشعبية".
الطريق الثالث المتاح اليوم أمام ماكرون هو الوصول إلى اتفاقٍ مع اليسار الإصلاحي واليمين المعتدل، وكلاهما معسكران ضعيفان، أضعفهما حكم ماكرون نفسه طوال السنوات السبع التي قضاها في قصر الإليزيه، بعد أن وصل إلى الحكم بوعود جمهورية، وحكم البلاد ببرنامج يميني ليبيرالي. ويريد اليوم الخروج من أزمته التي أحدثها بنفسه باستجداء أصوات الاعتدال داخل صفوف اليمين واليسار المعتدلين، مقدّما نفسه منقذا للجمهورية من السقوط المريع في حضن اليمين المتطرّف الذي نمّاه هو نفسه طوال السنوات الماضية بمغازلة أتباعه ببعض سياساته ومواقفه المتطرّفة، خصوصاً المتعلقة بالهجرة أو بمعاداة الإسلام أو ما يطلق عليه في فرنسا "الإسلاموفوبيا"، وبمواقفه المساندة لإسرائيل وللوبي الصهيوني داخل فرنسا، خصوصاً منذ أحداث السابع من أكتوبر، أو من الانسياق وراء شعارات اليسار الراديكالي الذي أدّت سياسات ماكرون الليبرالية ومواقفه السياسية من الصراع في الشرق الأوسط إلى تقوية صفوفه وتعزيز مصداقيّته عند شرائح واسعة من الفرنسيين، خصوصاً في أوساط الشباب والفئات الاجتماعية الفقيرة وفي صفوف المهاجرين والجاليات المسلمة. وإذا كانت وصفة "المنقذ" أو "المخلص" من "الشرّين" قد نجحت مع ماكرون في انتخابات تجديد ولايته عام 2022، فإن الوضع اليوم في فرنسا، وفي العالم، ليس هو نفسه كما كان عليه البارحة.
وإذا ما فشل معسكره في التوصل في الوقت المناسب إلى توافق يجمع داخله وسط اليمين واليسار المعتدل، فإن أغلبيته الرئاسية ستجد نفسها مسحوقةً بين حزبي التجمّع الوطني اليميني والجبهة الشعبية اليسارية. ويبدو أن أغلبية الرئيس الحكومية تجد صعوبة كبيرة في إيجاد طريقها بين هاتين الكتلتين الكبيرتين، ما يفرض عليها العيش في حالةٍ من الخوف من الوجود في المركز الثالث في الدورة الأولى من هذه الانتخابات، ما سيسمح لليمين المتطرّف واليسار الراديكالي بالتصادم في الجولة الثانية من الانتخابات المرتقبة في السابع من الشهر المقبل (يوليو/ تموز).
يبدو أن ماكرون أكسب اليمين المتطرّف قوة دفع ستعجّل بوصوله إلى السلطة قبل موعد الانتخابات الرئاسية عام 2017
حوّلت حدّة التنافس بين كتلتي اليمين المتطرف واليسار الحملة الانتخابية إلى سوق من المزايدات في الشعارات والوعود التي قد تؤدّي إلى نوع من الفوضى والإضرابات في حال وصول أيٍّ من الكتلتين إلى سدّة الحكم، وهو ما دفع معسكر ماكرون المتحد تحت عنوان "معاً من أجل الجمهورية"، إلى المراهنة على حالة الخوف من المستقبل ورفع شعار "المسؤولية" لطمأنة الفرنسيين بأنه وحده القادر على الحافظ على قيم الجمهورية الفرنسية، وكأنه ما زال يأمل في أن ينتشل حكمه من ميدان الخراب الذي أوجده بحلّه الائتلاف الحكومي الذي عجز عن بنائه منذ الانتخابات التشريعية في يونيو/ حزيران 2022.
كان حلّ الرئيس ماكرون البرلمان الفرنسي، عشية ظهور نتائج الانتخابات الأوروبية التي انهزم فيها حزبه، قرارا متسرّعا أملته عليه حساباته السياسية التكتيكية. وبدلاً من أن يتصرّف إطفائيا تصرّف مشعل حريق غير مسؤول، ورمى عود ثقاب وسط مستودع من المواد القابلة للانفجار، ووضع نفسَه أمام الحقيقة السياسية التي لم تعد تقبل التأجيل إلى أجل غير مسمّى، عندما سيجد نفسه "متعايشا" مع اليمين المتطرّف الذي قد يرأس الحكومة في حال فوزه في هذه الانتخابات، أي بعد أسبوعين، قبل تسليم مفاتيح الحكم في الإليزيه إلى زعيمة هذا اليمين مارين لوبان عام 2027.
وفي كل الحالات، سيفرض الواقع البرلماني الذي ستفرزه الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الحالية على الرئيس ماكرون التعايش مع ساكن قصر ماتنيون الجديد، يمينيّاً متطرفاً كان أو يساريا معتدلاً أو راديكاليا، فالدستور الفرنسي يحتّم على الرئيس أن يتصرّف بوصفه ضامنا لاستمرار قيم الجمهورية، والحفاظ على مظاهر الحكم رئيساً لكل الفرنسيين، حتى لو لم يتمكّن من الاعتماد على أغلبية مستقرّة، فعليه أن يستمرّ جالسا على عرشه مثل ملك معزول.
أدّى الزلزال الذي أحدثه ماكرون بقراره المتسرّع حل البرلمان إلى تفخيخ اليمين الوسط المتمثل في حزب الجمهوريين الديغوليين
ما تشهده اليوم فرنسا يدخل في سيرورة انهزام "الماكرونية" التي حملت أسباب فشلها معها منذ وصول ماكرون إلى السلطة عام 2017، وقد كتب صاحب هذا الرأي عن "سقوط الماكرونية" في شهر أغسطس/ آب الماضي في "العربي الجديد"، بما أن أسباب هذا السقوط كانت ظاهرة للعيان تجلّى في الفشل الاقتصادي في الإصلاحات التي باشرها، وفي الفشل السياسي في بناء حزبٍ حقيقيٍّ له قاعدة شعبية قوية يستند إليها، وساهم نهجه العمودي في السلطة، بالإضافة إلى غطرسته المُفرطة ونرجسيته السياسية البحتة وشخصيّته التي ترفض تقديم أي نوعٍ من التنازلات، كلها أمور تركته معزولاً ومكشوفاً، ما كان يهدّد بتحويل ولايته الثانية إلى جحيم، وهو ما حدَث فعلا.
يبدو أن ماكرون الذي ألف دائما اللعب على الحبال ونصب الفخاخ لجميع خصومه سقط في فخاخه، وأدّى الزلزال الذي أحدثه بقراره المتسرّع حل البرلمان إلى تفخيخ اليمين الوسط المتمثل في حزب الجمهوريين الديغوليين، والذي كان يعتمد عليه في أغلبيته المنتهية ولايتها، وسرّع في تحالف اليسار المشتّت والمتناقض حتى التصادم ضدّه، وأكسب اليمين المتطرّف قوة دفع ستعجّل بوصوله إلى السلطة قبل موعد الانتخابات الرئاسية عام 2017، وما زالت الهزّات الارتدادية لقراره المتسرّع، ولما قد يصدُر عنه من قراراتٍ مفاجئةٍ في غضون الأسبوعين المقبلين، تأتي كل يوم بمفاجآت تجعل المشهد الفرنسي أكثر اضطراباً، بل وتصادما قد يفاجئنا بما هو أغرب عند ظهور نتائج انتخابات الدورة الثانية في الأسبوع الأول من الشهر المقبل.