دولة عظمى وكل هذا الفشل

12 يوليو 2018
+ الخط -
حاولت مرة إجراء نقاش عقلاني مع أحد الضباط الشبان في قسم الشرطة الذي أقيم فيه في القاهرة، كان مشحونا ضد ثورة يناير، وكل مَن كان له دور قيادي فيها. ظننت واهما أنه ببعض الحوار ربما تقِلّ قليلا تلك الكراهية الواضحة في عينيه، أو ربما تقلّ حدة التعامل قليلا بيننا، فقد كان مشحونا بخطاب المؤامرة الذي درسه في سنوات دراسته في كلية الشرطة.. ثورة يناير مؤامرة أميركية صهيونية لتدمير مصر، كل من يتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان هو خائن وعميل يخدم مصالح الغرب، الإخوان المسلمون ونشطاء الثورة وكل من يعارض عبد الفتاح السيسي خائن وعميل، ويعمل لصالح الغرب، ويتلقى تمويلا خارجيا لفعل ذلك.
لم يستوعب، ولم يتقبّل أي حديث عقلاني أن المعارضة ليست خيانة للوطن، أو أن انتقاد السلطة ومشاريعها الفاشلة يهدف إلى حماية الوطن، وليس لهدمه، كما لقنوا هذا لضابط الشرطة في الكلية. وكان من الصعب أن يفهم أن الاهتمام بحقوق الإنسان ليس عمالة للغرب، ولم يصدّق أن زعيمه هو أكثر حكام مصر والعرب تطبيعا مع الصهاينة، والأكثر تماهيا مع المصالح الغربية، وأن ما يقوله الإعلام المصري عن نظريات المؤامرة والجيل الرابع من الحروب هراء بغرض التخويف، ومنع الناس من الاعتراض.

لم يتقبل الضابط الشاب أي حديث عقلاني أو نقاش، فهو الذي لقنوه في كلية الشرطة أنه من طائفة (أسياد البلد)، فظلّ يردد بتشنج عجيب إن مصر ستصبح دولة عظمى قريبا جدا، وستنتصر على جميع أعدائها، مثل أميركا وأوروبا وإسرائيل وقطر وتركيا. وبالطبع، كانت محاولة الحديث مرة أخرى عن مقوّمات الدول العظمى، أو حتى مقومات الدول، محاولة فاشلة للحوار من طرف واحد.
نظر إليّ بتعجّب، كأنه يشاهد كائنا فضائيا، عندما حاولت التحدّث عن أهمية الديمقراطية والتعدّدية واحترام حقوق الإنسان في وصول الدول المتقدمة إلى ما هي فيه الآن. ونظر إلي بمزيج من الاستياء والغضب، عندما تحدثت عن أهمية الشفافية والحكم الرشيد والتخطيط السليم في بناء الدول المتقدمة التي نعاديها في وسائل الإعلام الموالية للسلطة، ونتهمها بالتآمر على مصر، وهي الدول نفسها التي تتسوّل منها حكوماتنا المتعاقبة سرا وعلانية، وهي الدول نفسها التي يتفاخر عبد الفتاح السيسي بالعلاقات التاريخية والاستراتيجية معها، وهي الدول نفسها التي نستورد منها السلاح والتكنولوجيا، ولكن نرفض استيراد التعليم منها، أو أساليب الإدارة السليمة.
كان التعليم محور حديثي مع أحد المتعصبين للديكتاتور. رآني في أحد المتاجر، وتعرّف عليّ، وظل يتحدث ببعض العصبية، ويكرّر الخرافات، وحديث المؤامرات المعروف، التي يردّدها الإعلام المصري حول ثورة يناير.. سألته كيف يمكن أن تصبح مصر دولةً عظمى، أو حتى دولةٍ، إذا كان فيها كل هذا القمع والفساد والاستبداد؟ لمعت عيناه كأنه "جاب الذئب من ذيله"، كما يقال في مصر، ليقول: أنظر إلى تجربة النمور الآسيوية، سوف نصبح أفضل منهم، خلال سنوات قليلة، لا حاجة للديمقراطية وحقوق الإنسان، وكل تلك الخدع الغربية التي تنادون بها.
أجبته إنه ربما كان مؤشر الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان منخفضا في تلك الدول، خصوصا في مرحلتي الستينيات والسبعينيات، وإن كان بعضها يتمتع بدرجةٍ عاليةٍ من الديمقراطية حاليا، خصوصا كوريا الجنوبية وماليزيا، وحتى الدول التي لا يزال مؤشّر الديمقراطية فيها أقل تقدما من النموذج الغربي، إلا أنها أفضل حالا من تجاربنا بشكل عام. ولكن حدث تحول ديمقراطي مهم في كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، ساهم كثيرا في نهضتها الحالية، فقد حدثت فيها ثورة ضد القمع والاستبداد في الستينيات، بعد استمرار الرئيس الأول في كوريا أكثر من 12 عاما في السلطة، وأدت الثورة إلى نظام حكم انتقالي ديمقراطي، مؤيد للديمقراطية وللحريات. ولكن قام ضده انقلاب عسكري بعد ذلك بسنوات قليلة، من أجل الحفاظ على المصالح العسكرية، وكان هذا الانقلاب مدعوما من الولايات المتحدة بشكل كبير، للحفاظ على مصالحها المرتبطة بالعسكر، لكن النظام العسكري في كوريا أدى إلى مشكلات داخلية عديدة، وإلى أزماتٍ عديدة، بسبب غياب الديمقراطية والشفافية واحترام حقوق الإنسان. وعلى الرغم من النمو الاقتصادي الذي حدث على يد الجنرال الديكتاتور بارك تشونج هي، بتدبير من داخل المؤسسة العسكرية نفسها، ودخلت البلاد في مرحلة انتقالية طويلة، وكانت لا تزال فيها مَسْحة سلطوية، حتى تم التحول الديمقراطي والاستقرار منذ منتصف الثمانينيات، وهي الفترة التي انطلقت فيها كوريا بشدة، وتضاعفت فيها النهضة الصناعية والتكنولوجية والاقتصادية.
حاولت الإشارة إلى أن التجربة الديمقراطية للنمور الآسيوية ربما قد لا تكون المثال الأفضل للتحول الديمقراطي، وأنه بالفعل يوجد تباين وتنوع بينهم، عند وضعهم على مقاييس التحول الديمقراطي، ولكن أقلهم ديمقراطية طبقا للمؤشرات هو أفضل حالا منا في مصر بكثير، بالإضافة إلى وجود عيوب السياسات النيوليبرالية، مثل الفجوة بين الطبقات وغياب العدالة الاجتماعية وانتشار الثقافة الاستهلاكية، إلى جانب الأزمة الاقتصادية التي حدثت في التسعينيات، لكنها كلمة حق يراد بها باطل، عندما يتحدث بعضهم عن تجربة النمور الآسيوية نموذجا للنجاح والتقدّم، على الرغم من الأنظمة السلطوية التي تحكم بعضها، وعلى الرغم من غياب الديمقراطية، أو يغفل عوامل أخرى كثيرة، فهناك عوامل أخرى كانت حاسمة ورئيسية في تجربة النمور الآسيوية، فإذا كانت بعض دول شرق آسيا في بداية الطريق نحو التحول الديمقراطي، وبعضها الآخر قطع شوطا كبيرا، فإن جميع تجاربها كانت مشتركة في عدة عوامل، مثل الاهتمام بالتعليم والبحث العلمي، وفكرة الاستثمار في البشر عن طريق زيادة الإنفاق في الصحة والسكن وتنمية المواطنين وتشجيع الابتكار، وقد توازى ذلك كله مع أنظمة إدارية وبيئة تشريعية تشجّع المبادرات وتسهّل الإجراءات.

لا يجب بشأن تجربة النمور الآسيوية إغفال الدعم الأميركي المباشر لتلك الدول، بهدف مواجهة الصين الشيوعية، وللحدّ من نفوذ الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت. وأيضا كانت هناك عوامل مشتركة أخرى في تلك التجارب، مثل التركيز على الصناعات التصديرية واستخدام طرق الإدارة الحديثة والحوكمة، وكذلك التشجيع الحقيقي للاستثمارات عن طريق تشريعاتٍ مدروسة، وعن طريق وجود دولة قانون، وكذلك كان هناك اهتمام بالصادرات، وتقليل الديون الخارجية وتشجيع الادخار المحلي، والاستفادة الإيجابية من اتفاقيات التجارة الحرة عن طريق التصنيع والتصدير، والأهم كان هناك اهتمام بالبشر وتنميتهم، وليس فقط تحقيق النمو الاقتصادي.
يحاول أنصار النظام في مصر التبرير والمراوغة، بذكر مثال النمور الآسيوية نماذج استطاع "بعضها" التقدم من دون تحقيق ديمقراطية كاملة، وتداول حقيقي للسلطة، متجاهلين العوامل الأخرى التي نفتقدها، فكيف تتحقق نهضة في مصر مع النظام الحاكم حاليا، وسط ذلك الشرخ العميق في المجتمع؟ وكيف يتحقق تقدمٌ وسط غياب دولة القانون، ووسط انتشار الفساد والمحسوبية بذلك الشكل المهول والمتغلغل؟ وكيف تتحقق التنمية، على الرغم من الفجوة الطبقية وغياب العدالة الاجتماعية في مصر؟ وكيف تتحقق نهضة في مصر، والحال مؤسف للتعليم والبحث العلمي والصحة والإسكان والبنية التحتية؟ هل من الممكن أن يحقق ذلك النظام أي تقدم أو نهضة، على الرغم من كل الفساد والفشل الإداري والتخلف الفكري؟ مستحيل.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017