القتل الجيّد... والقمع الجيّد

14 ديسمبر 2023
+ الخط -

شاهدتُ، قبل أيام، فيلما أميركيا شهيرا أثار الجدل عند عرضه أول مرّة منذ عدّة سنوات. عند مشاهدته للمرّة الثانية، وبالتزامن مع ما يحدث في غزّة من مجازر وانتهاكات وإبادة جماعية، أثار لدي أفكارا وتأملاتٍ عديدة. فيلم "قتل جيّد" (good kill) بطولة إيثان هوك وإخراج أندرو نيكول، وإنتاج عام 2014، ويحكي قصّة طيّار أميركي، ينتقل للعمل في مجال قيادة الطائرات بدون طيّار، حيث يجلس طوال الليل يراقب أماكن متنوعة في العالم، ليقوم بحراسة جنود ومقاتلين أميركيين في أثناء عملهم أو في أثناء نومهم خلال الجولات العسكرية، أو يجري تكليفه بمهامّ مراقبة عناصر قيادية من تنظيم القاعدة في العالم، وأحيانا يجري تكليفه بتنفيذ عمليات قصف دقيق، من خلال طائرات الدرونز التي يتحكّم بها عن بعد من داخل علبة معدنية معزولة عن العالم داخل قاعدة عسكرية سرّية في صحراء نيفادا.

يحمل الفيلم نظرة فلسفية مثيرة للتأمل عن المعضلات الأخلاقية أو الصواب والخطأ، والواجب والجريمة من وجهات النظر المتعدّدة، فالضابط ورفاقه يظلّون ساعات طويلة يراقبون الهدف بطائرات الدرونز، ثم يطلقون القذائف المدمّرة التي تحوّل المبنى إلى ركام في عدّة ثوان.

مع الوقت، بدأت المهامّ المكلف بها تتغيّر، فمثلا طلب منه قصف منزل يفترض أن فيه اجتماعا سرّيا لقيادات في تنظيم القاعدة. ولكن كانت هناك أيضا عدة نساء وفتيات وأطفال في المنزل نفسه. وبالتأكيد، لم ينجُ أحدٌ من عملية القصف، وبعد ذلك تجمع أهل البلدة لمحاولة إنقاذ من تبقّوا على قيد الحياة، فتُصدر أوامر جديدة بإطلاق صواريخ أيضا على من تجمّع للإنقاذ، للتأكّد من أن لا أحد على قيد الحياة حتى من المصابين بدون تمييز، وهو ما يطلقون عليه "القتل الجيد"، وهو عنوان الفيلم، حيث جرى التأكّد من قتلهم جميعا 100%، ليست هناك فرصة للنجاة، حتى لو كان القتلى من الأبرياء عن طريق الخطأ.

مع الوقت، بدأ الطيار يشعر بأن هناك شيئا خطأ، أو غير أخلاقي، فبدأ في التذمّر من ذلك العمل، وشرع في الاستفسار عن دقّة المعلومات، وعن هؤلاء الأبرياء من النساء والأطفال الذين يتم قتلهم بشكل عارض، ففي بعض المرّات كان هناك أطفال يلهون حول منزلٍ في أثناء قصفه، ومرّة أخرى كان هناك ولد صغير مع أبيه، عندما جرى تكليفهم بقصفٍ ما يُعتقد أنه اجتماعٌ لبعض قادة تنظيم القاعدة، وهل كل التجمّعات التي يتم قصفها هي فعلا لإرهابيين خطرين؟

كانت تبريراتهم أنه حتى لو تم قتل بعض الأبرياء بالخطأ، ولكن ذلك يتسبّب في إنقاذ حياة أضعاف هذا العدد من المواطنين الأميركان، ولو قتل بعض المتعاطفين، حتى لو لم يقوموا بأفعال إرهابية

ولم يتلقّ إجابات مقنعة إلا حول أن تلك أوامر، وأن الهدف هو حماية مزيد من الأبرياء. وبعد ذلك، أصبحت المهامّ أكثر عشوائية ووحشية، فقد بدأت تصدُر من المخابرات المركزية CIA، شعر بأن كثيرا من تلك المهام مبنيٌّ على معلوماتٍ واحتمالاتٍ قد تكون غير صحيحة، ففي إحدى المرّات، طلب منهم قصف صلاة للجنازة، وقتل كل من حضرها في أثناء الصلاة، فقد كانت المعلومات تفترض أنهم قادة من حركات الجهاد ينظمون مراسم جنازة لبعض من قادة التنظيمات الجهادية. دخل الضابط في صراع نفسي كبير، بعد تنفيذه تلك الأوامر المتعارضة مع الضمير، والإنسانية، فلو كانت مهمّتهم المقدسة حماية الأرواح والأبرياء، فلماذا يقتلون أطفالا أبرياء كحادث عرضي، وهؤلاء النساء اللواتي يقتلن في القصف الموسع أو في أثناء عبورهن من المنطقة نفسها، وتلك البيوت التي يتم تدميرها عن طريق الخطأ، وأيضا هؤلاء الذين يموتون عن طريق معلومات خاطئة أو إحداثيات خاطئة أو وشاية خاطئة.

بدأ في جدال رؤسائه عن الأخلاقيات والقانون والمشروعية، سخر منه بعضُهم، وشكّكوا في ولائه، ووطنيّته وصلاحيته للعمل في الجيش. ... كانت تبريراتهم أنه حتى لو تمّ قتلُ بعض الأبرياء بالخطأ، ولكن ذلك يتسبّب في إنقاذ حياة أضعاف هذا العدد من المواطنين الأميركان، ولو قتل بعض المتعاطفين، حتى لو لم يقوموا بأفعال إرهابية، فهذا لا يمنع احتمالية تحوّلهم إلى إرهابيين حقيقيين في المستقبل، فقتلهم من الآن قبل تحوّلهم هو حماية للوطن، لو مات عدّة مئات أو آلاف عن طريق الخطأ فالهدف أسمى، وهو حماية الوطن، وأن ما يحدث من عمليات اغتيال هو في الأساس دفاع شرعي عن النفس ضد خطرٍ محتملٍ قد يتسبّب في مقتل عشرات ومئات الأبرياء من الأميركيين. لم يقتنع، بالطبع، بتلك المبرّرات التي تتنافى مع المنطق والضمير السليم، فبدأ في تعمّد إفشال بعض العمليات أو التهرّب من بعض الأوامر، وفي إحدى المرّات تعمّد قتل عصابات إجرامية، وليس جماعات يشتبه أنها جهادية، فمن وجهة نظره هم أوْلى بالقتل، وليس من يحتمل أن يشكل تهديدا في المستقبل.

كانت أبرز النقاط التي لاحظتها أو خرجت بها من ذلك العمل السينمائي تطابق المنطق أو المبرّرات الذي يحكم تصرّفات الإدارة الأميركية في الفيلم أو أجهزة مخابراتها مع مبرّرات إسرائيل في حربها على غزّة، أو في كل العمليات السابقة ضد الفلسطينيين. تتحجّج إسرائيل بأن حرب الإبادة التي تشنّها هي في الأساس بهدف الدفاع الشرعي عن النفس، وبهدف حماية المواطنين الإسرائيليين الأبرياء من عدوانٍ محتمل، ولذلك لا قيمة لأرواح الأطفال والنساء، وذلك العدد الضخم من المدنيين الفلسطينيين، فوجهة النظر التي يروّجها الصهاينة أصحاب الآلة الإعلامية الجبّارة أن كل هؤلاء الآلاف من الضحايا هم قتل عرضي بهدف حماية أرواح مواطنيهم أو بسبب تمركز حماس وسط المدنيين.

لا يوجد مستبدٌّ يعترف بأنه ظالم أو قاتل، بل يزعم المستبدّ دوماً أنه منقذ لشعبه من الخلافات والأفكار الهدّامة

وفي سياق ليس بعيدا، تجد أن الأنظمة السلطوية العربية تستخدم المنطق أو المنطلق نفسه. وللأسف الشديد، لا تختلف المبرّرات الصهيونية والأميركية عن المبرّرات والحجج التي نسمعها من أبواق السلطة في الوطن العربي، لتبرير القمع والاستبداد والظلم، فكثيرون ممن لديهم آراء إصلاحية في بلادنا يجري القبض عليهم واتهامهم بالانضمام لجماعة إرهابية، من دون تحديدها، وكذلك وصم المدافعين عن حقوق الإنسان بأنهم متعاطفون أو داعمون للإرهاب، حتى لا يجرؤ أحد على انتقاد تلك الممارسات. أما المؤيدون وأنصار السلطوية فيزعمون أن تلك الإجراءات احترازية بهدف حماية الدولة و"إنقاذ الوطن".

ولكن هل هناك فارق كبير بين ما تفعله حكومة الاحتلال من اعتقال عشوائي بحجّة حماية الأمن ومكافحة الإرهاب عما نراه كثيرا في بلادنا؟ هل هناك فارقٌ كبير بين معاملة السلطات الإسرائيلية الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وما يذوقه محبوسون كثيرون على خلفية قضايا سياسية أو قضايا رأي داخل سجوننا الوطنية ومراكز الإصلاح والتأهيل المزعومة؟

يُنظر إلى أفعال كثيرة ذات الطابع العنيف من فاعليها بأن هدفها الخير، هنا وهناك، لدينا ولديهم، قديما وحديثا، فالحرب يزعمون أنها بهدف الدفاع عن النفس أو الوطن أو لفرض السلام. أما القمع وكتم الأصوات والاستئثار بالسلطة فيزعمون أنها لحماية النسيج الوطني ولدحض المؤامرات.

لا يوجد غازٍ أو مقاتل يزعم أنه شرير أو يقتل الآخرين لمجرّد اللهو أو لمجرّد القتل، ولا يوجد مستعمر أو محتل يعترف بأنه لصٌّ غاصب، بل يزعم أنه جاء للتعمير وانتشال تلك الشعوب من التخلف، ولا يوجد مستبدٌّ يعترف بأنه ظالم أو قاتل، بل يزعم المستبدّ دوما أنه منقذ لشعبه من الخلافات والأفكار الهدّامة.

إنها نظريات القتل الجيد، والاستعمار الخلّاق، والاستبداد الطيب.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017