الجزائر ليست جمهورية رز

03 ديسمبر 2018

(18/5/2017 فرانس برس)

+ الخط -
كانت الجزائر تسمى مكّة الثوار في عهد الرئيس الراحل بومدين، حين كانت قِبلة تستقبل أعظم ثوار العالم، تشي غيفار، ومانديلا، وسامورا ماشيل، وأميلكار كابرال، وغيرهم، والآن تجد أيقونة الثورة الجزائرية المجاهدة، جميلة بوحيرد، نفسها تتحسّر، وهي تشاهد زيارة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مكّة الثوار هذه، في أعقاب الضجّة الإعلامية التي أعقبت قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، قبل أن تقسم بأغلظ الإيمان أنها لن تحج البيت الحرام، ولن تطأ قدماها مكة المكرمة، طالما أن قتلة خاشقجي لم يُعاقبوا.
أصل الحكاية المريرة هذه، والتي لا ذنب فيها هنا لا لمكّة المكرمة، ولا حتى لمكّة الثوار، أن السياسة تفعل الأفاعيل في عالمنا العربي، وتعيد رسم الخرائط والمقدّسات والقيم، كونها ببساطةٍ ما عادت تسمع لنبض الشارع العربي، بقدر ما تستمع بخشوعٍ لا مثيل له لصوت المصالح، وإلا كيف لا يُسمع صوتا المجاهدة بوحيرد، والمجاهد الكبير لخضر بورقعة، اللذان يقفان في مقدمة حراك شعبي ضخم، رافض هذه الزيارة، بينه أحزاب سياسية ومنظمات مدنية وإعلاميون ودكاترة وأستاذة جامعات وشخصيات وطنية وثقافية بارزة، منهم الكاتبان كمال داود، ورشيد بوجدرة، ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، عبدالرزاق قسوم، بينما يفرش البساط الأحمر لحسابات الربح والخسارة التي يحفل بها قصر المرادية، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في البلد في أبريل/ نيسان المقبل.

عملياً، قد تكون الزيارة، في هذه الأثناء، أكثر من مجرد "جبر خاطر" جزائري لولي عهد السعودية، عقب ما تعرّض له من تهميش في اجتماعات مجموعة العشرين في بيونس أيرس، فالجزائر ليست في الجيب السعودي بالكامل، كما الحال مع القاهرة، وأبو ظبي، والمنامة، في بداية هذه الجولة العربية، على اعتبار أن لها دائماً موقفها المستقل والسيادي عن الرياض، في ملفات عديدة، كاليمن وسورية وحصار قطر، وفي قضية فلسطين. كما أنها أيضا ليست تونس، من حيث الحجم والتأثير، وبمقدورها أكثر من غيرها، ربما، ترميم ما أمكنها للصورة المهشّمة التي بات يحملها الزعيم الشاب في المحافل الدولية، بالنظر إلى مكانة الجزائر، خصوصاً داخل المنظمات الإقليمية.
كانت الجزائر الممرّ السري للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، نحو العودة إلى الاتحاد الأفريقي، ورفع التجميد عن مقعد مصر بعد إزاحته الرئيس محمد مرسي، لما كان الاتحاد الأفريقي يعتبر ما حصل انقلاباً على الشرعية. وكانت أول محطة تستقبل السيسي من بين عواصم العالم في العام 2014، ولعل في الزيارة الأولى هذه من نوعها لولي العهد السعودي للجزائر ما يفتح المجال مجدّداً لإعادة الهيكلة والتسويق ذاته، انطلاقاً من الجزائر، للرجل أكثر مما فعلت قمة العشرين نفسها، غير أن ذلك لن يكون بالتأكيد بالمجان، فعلى الرياض أن تجيب بوضوح عن تساؤلات الجزائريين في موضوع رفع إنتاج النفط السعودي، وما أدّى إليه من انهيار في أسعار هذه المادة الأساسية بالنسبة للموازنة الجزائرية. هذه القضية المحورية بالنسبة للجزائر هي من الأهمية بحيث لا يمكن التغاضي عنها، كونها تشكل العنصر الأساس في استقرار الجزائر، فانخفاض أسعار البترول بحوالي 30 دولاراً للبرميل الواحد في ظرفٍ وجيزٍ هي ضربة قاصمة لكل الحسابات السياسية للسلطة في الجزائر. وقد بدأت الحكومة في تهيئة الرأي العام لأيام سوداء قد تشهدها البلاد جرّاء ذلك.
غير أن التاريخ يذكر، أيضاً، أن السعودية، بحسب ما ذكره وزير الدفاع الجزائري السابق، خالد نزار، في مذكّراته، كانت قد أمدّت السلطات الجزائرية بحاجاتها المالية في أعقاب توقيف المسار الديمقراطي في البلاد سنة 1992، عقب فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالانتخابات التشريعية وقتها، وهذه الخدمات المتبادلة، على ما يبدو، بين حكام المملكة حينها ومن كانوا يسيطرون على دفة الحكم في مكة الثوار، ليست عابرة، أو قد تؤثر فيها خلافات بسيطة هنا وهناك. وقد ظهر الدليل جلياً في الطريقة المثيرة للانتباه التي تعاملت بها الجزائر في موضوع خاشقجي، حيث دانت الجزائر الجريمة الشنعاء بعد شهرين تقريباً من وقوعها، أي قبل أيام فقط من الإعلان غير الرسمي لزيارة ولي العهد الجزائر، لكنها، في الآن نفسه، عبرت عن ثقتها في العدالة السعودية وقدرتها على تسليط الضوء على هذه القضية، ما يعني أن الجزائر تبنّت الرواية السعودية كاملة. كما أن الجزائر لم تلق باللائمة على السعودية في موضوع ارتفاع اسعار النفط، وبدلاً من الحديث عن دور سعودي واضح في تغطية غياب الإنتاج الإيراني، بحسب الأوامر الأميركية، قال وزير الطاقة الجزائري، مصطفى قيتوني، صراحة "إن الرياض رفعت من إنتاجها بشكل طفيف بسبب نقص الإنتاج من فنزويلا".
هذا هو بالضبط توصيف الفقيد جمال خاشقجي الجزائر بأنها "بلد مريح" للسعوديين، حتى وإن عارضت الرياض في بعض الملفات، مثل اليمن وسورية، ورفضت المشاركة في التحالف العربي، فإن معارضتها واضحة. وكذلك الحال حين يتعلق الأمر بمساندتها، فهي أبعد ما تكون عن "النفاق" الذي قد تلجأ إليه دول عربية أخرى لحماية مصالحها. ومن شأن ذلك أنه قد أراح بن سلمان أكثر، في عرض صفقات المصالح المشتركة، سواء من الناحية المالية لتجاوز الجزائر الظرف الحسّاس الذي تمر به، مع وضعية الرئيس الصحية، وارتفاع حدّة الصراع
 على خلافته بين المتصارعين على الحكم، أو حتى في الجوانب السياسية الأخرى، وفي مقدمتها قضية الوساطة الجزائرية في قضية حصار قطر، خصوصاً وأن الجزائر، التي ظلت تعرب عن مساندتها الوساطة الكويتية، قد بادرت أياما قليلة من زيارة ولي العهد إلى الجزائر، بإلإعلان عن زيارتين لقائد أركان الجيش، نائب وزير الدفاع، الفريق أحمد قايد صالح، إلى الإمارات وقطر، تفيد التحليلات بأنها لن تخرج عن هذا الإطار من محاولات "جسّ النبض" على الطريقة الجزائرية في موضوع الوساطة، خصوصاً أن للجزائر علاقات متميزة مع أطراف الأزمة جميعاً.
لكن، هل بالضرورة أن يسير ذلك كله بمنطق الثورة والثوار؟ الأكيد لا، فحتى الأيقونة جميلة بوحيرد، والتي وقفت اليوم، بعنفوان الثورة، في وجه بن سلمان، قد سجل التاريخ عليها نقاطه المعتمة، حين قبلت قبل مدة تكريم نظام السيسي لها. وهكذا هي الدول، ليست جميع أفعالها مرتبطة بالضرورة بالجانب الأخلاقي، حتى وإن تعلق الأمر بالولايات المتحدة والدول الأوروبية نفسها. وفي النهاية، ليس على بوحيرد أن تبر بقسمها بعدم زيارة مكة المكرّمة، فالحج إلى بيت الله من ركائز الإسلام، ومكّة ملك كل المسلمين بغض النظر عمن يديرها اليوم، وبغض النظر عن اسم خادم الحرمين الشريفين غداً. المهم أن لا تنحدر ما كانت "مكة الثوار" أكثر مما يحتمل شعبها، وأن لا تتحوّل، بتعبير رئيس حركة مجتمع السلم، عبد العزيز مقرّي، هذه الجزائر، العظيمة بتاريخها وثورتها وشعبها الكبير، إلى "جمهورية رز" على غرار جمهوريات "الرز" الأخرى التي تبيع وتشتري في كل شيء.. فوحده هذا المستوى من السقوط من سوف يعفّر أنوف الشرفاء في التراب. ولا نحسب أن الجزائر قد وصلت إلى هذا الحد، ببركة دماء الشهداء وأنفاس من تبقى من المجاهدين والأحرار فيها.
133E9202-5916-4876-BAE6-293DD70280C0
حسان زهار

كاتب وإعلامي جزائري، تولى رئاسة تحرير صحف جزائرية يومية وأسبوعية