دمعة جزائرية على ضحايا درنة

26 سبتمبر 2023
+ الخط -

لكأنّ أصوات الموت التي هبّت، في هدير أمواج السيول الجارفة على درنة الليبية، هي نفسها التي هبّت بالأمس على باب الوادي، أحد أشهر أحياء العاصمة الجزائرية. لذلك كانت دموع الجزائريين على إخوانهم الليبيين أكثر من صادقة، عبر التعاطف الشعبي غير المسبوق مع مأساة الأهل في درنة، وعبر فزعة الدولة الجزائرية برمتها، التي قرّرت، منذ الوهلة الأولى من الكارثة، إنزالا حكوميا غير مسبوق في دولة أخرى، مكوّنا من وزراء الداخلية والصحة والتضامن، نحو طرابلس لتنسيق المساعدات الجزائرية، والتعامل مع الكارثة كما لو أنها وقعت في الأرض الجزائرية بالضبط، لتلبية كل ما يحتاجه الإخوة الليبيون للخروج من هذه الكارثة.
أصل الحكاية، قبل أن تستيقظ درنة على فاجعة دانيال (مع الاعتذار من الرئيس التونسي قيس سعيّد)، كان عندما استيقظت الجزائر العاصمة، وتحديدا الحي الشعبي الأكبر والأشهر فيها حي باب الوادي، في اليوم الذي سمّي حينها "السبت الأسود"، العاشر من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، على سيول جارفة من المياه قادمة من أعالي العاصمة نحو الحي الساحلي المنخفض، بعد ساعتين من التساقط المتواصل للأمطار، لم تشهدها المنطقة منذ أربعينيات القرن الماضي، لتجرف معها ناحية البحر الذي ارتفعت أمواجه إلى أكثر من ثمانية أمتار، أكثر من 800 ضحية جلهم كانوا داخل حافلات للنقل الجماعي، متوجهين في صبيحة ذلك اليوم المشؤوم إلى مدارسهم وإلى مقارّ أعمالهم.

الدمعة التي سالت قبل 23 عاما، من عيون الجزائريين على ضحاياهم الذين قضوا حينها غرقا بين ماء السيل وماء البحر، هي التي سالت اليوم، على ضحايا درنة

كانت فاجعة باب الوادي أكبر من أن تُحتمل، تماما كما هي فاجعة درنة اليوم فوق أن تُتصوّر، وحتى وإن كانت أعداد الضحايا الليبيين أكبر وأكثر فداحة، إلا أن الدمعة نفسها التي سالت قبل 23 عاما، من عيون الجزائريين على ضحاياهم الذين قضوا حينها غرقا بين ماء السيل وماء البحر، هي التي سالت اليوم، على ضحايا درنة، الملوحة نفسها التي تترنّح بين ماء العين وماء البحر، هي ذاتها التي تفجّرت في أحشاء 45 مليون جزائري، ودفعتهم إلى أن يكونوا هناك مع إخوانهم بكامل العدّة والعتاد، بداية من فرق الغطّاسين للحماية المدنية، وصولا إلى قلعة بني عباس، أكبر سفينة حاملة للحوّامات في الأسطول البحري الجزائري، ومعهم دعوات كل الأمهات والصالحين.
أصل الحكاية الأكثر عمقا يعبق برائحة السياسة والحروب الأهلية التي كانت سببا، بشكل أو بآخر، في تعظيم خسائر غضب الطبيعة هنا وهناك، فقد كان حي باب الوادي الشعبي في العاصمة الجزائرية الوجه الآخر لمدينة درنة الليبية، من حيث انتشار الأصولية والفكر الجهادي، وسطوة الفساد ومنطق حكم العصابة، وفشل نموذج التنمية وعدم قدرة السلطات المحلية على تفادي الكارثة أو على الأقل التقليل من أضرارها الفادحة.

حملت ثورة فبراير (2011) في ليبيا شهداء درنة على الأكتاف، ومعها صرخات الثوار التي ظلت تدوّي في سماء هذه المدينة

كان حي باب الوادي في الجزائر العاصمة معقلا للحركة الإسلامية المتشدّدة نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، ومنه انطلقت أحداث أكتوبر (تشرين الأول) 1988 التي خلفت مئات القتلى بين المدنيين داخل الحي نفسه، وكانت سببا في دخول الجزائر عصر ما سمّي الانفتاح السياسي والتعدّدية الحزبية، وفيه كان يرتفع الصوت الأعلى للجبهة الإسلامية للإنقاذ التي فازت بالأغلبية الساحقة من الدور الأول للتشريعيات في ديسمبر/ كانون الأول 1991، قبل أن يوقف الجيش الجزائري المسار الانتخابي في 11 يناير/ كانون الثاني 1992، وتدخل البلاد كلها في عشرية سوداء من الحرب الأهلية، خلّفت ما لا يقل عن 250 ألف قتيل. وهي السيرورة تقريبا ذاتها، إلا في بعض التفاصيل التي جعلت من درنة قلب ليبيا النابض برفات عشرات الفاتحين، ومعقلا رئيسا في ثورة فبراير ضد حكم معمّر القذافي بوصفها خط الدفاع الأول عن بنغازي، قبل أن تتحوّل، بفعل الانقسام الداخلي، إلى معقل كبير للدواعش إلى جانب سرت سنتي 2014 و2015، الأمر الذي أدّى إلى غارات للطيران المصري عليها بعد العملية الاستعراضية لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عقب ذبح 21 مصريا بدم بارد، ليستحوذ على مقدّراتها في ما بعد الماريشال صدّام حفتر.
في كلا الموطئين الطيبين، ظلت الشهادة حرفة تتوارثها الأجيال، جيلا بعد جيل، فبينما حملت ثورة فبراير (2011) في ليبيا شهداء درنة على الأكتاف، ومعها صرخات الثوار التي ظلت تدوّي في سماء هذه المدينة "دم الشهداء ما يمشيش هباء"، كانت "باب الواد الشهداء" السمفونية التي رافقت جميع الجزائريين منذ خروج الدبابات إلى الشوارع لإخماد ثورة أكتوبر 1988، إلى الحد الذي تحولت فيه هذه المعزوفة عن شهداء باب الوادي، سواء الذين قضوا رميا بالرصاص في العشرية السوداء، أو بفعل فيضانات السبت الأسود عام 2001، إلى نشيد شعبي وطني جزائري خالص، تردّده بكثير من النوستالجيا مئات آلاف الحناجر في مدرّجات ملاعب الكرة، أو خلال حراك الشعب في الشوارع ضد حكم عبد العزيز بوتفليقة طوال عامين من 2019 إلى 2021.

الجزائريون والليبيون ليسوا فقط إخوة في الدم والعقيدة والتاريخ المشترك، وإنما أكثر من ذلك، إنهم إخوة في رضاعة الموت من الكأس نفسها

المثير للشجن والأسى في مقاربة الحزن الفريدة من نوعها هذه، وفي تحليل درجة الملوحة في الدمع الجزائري المنسكب اليوم على درنة الشهيدة، أن قرار الموت في الحالتين لم يكن طبيعيا وحسب، بقدر ما ساهم فيه الإهمال البشري جرّاء الحروب الأهلية العبثية في الدولتين الجارتين، وقد دلّت التحقيقات أن مأساة درنة ما كانت لتكون بكل تلك الفداحة، لو أن العقيد حفتر الذي تحوّل بقدرة قادر إلى ماريشال تعلق له النياشين في الإمارات، بعدما سيطرت قواته على درنة وعلى كامل الشرق الليبي، منح بعض الاهتمام لحياة الليبيين، كما يهتم بالاستيلاء على السلطة بالقوة، وأمر بترميم السدّين اللذين انهارا بفعل الإهمال، لتجرف مياههما في الطريق الأخضر واليابس، وهو تقريبا ما اتّضح بعد فيضانات باب الوادي، حيث يعتقد كثيرون من سكان الحي الشعبي أن غلق السلطات الجزائرية دهاليز واد مكسل لتصريف الأمطار هو سبب ارتفاع عدد الضحايا، حيث يقال إن السلطات عملت على منع الموت الذي تحمله الجماعات الإرهابية المسلحة التي كانت تتسلل إلى العاصمة عبر تلك الدهاليز العملاقة التي يصل قطرها إلى أكثر من أربعة أمتار بطول حوالي سبعة كيلومترات، وإذ بالموت الذي منع من الوادي يفيض من جهات أخرى من أعالي العاصمة إلى أخفض نقطة فيها في باب الوادي.   
ولأجل تلك الأوجاع المشتركة، سيسجل التاريخ في صفحاته الخالدة أن "فزعة" الجزائر، حكومة وشعبا، لتقديم يد العون للأشقاء في ليبيا المكلومة بالإعصار المدمّر، وبقاء فرقها المختصة للإنقاذ والإغاثة، صامدة هناك بعد قرابة الأسبوعين من الكارثة، رغم انسحاب فرق أجنبية عديدة، وإصرار الجزائريين على عدم ترك إخوانهم الليبيين وحدهم، هي من أكثر النقاط المشرقة في تاريخ العلاقات العربية الحديثة، فالجزائريون والليبيون ليسوا فقط إخوة في الدم والعقيدة والتاريخ المشترك، وإنما أكثر من ذلك، إنهم إخوة في رضاعة الموت من الكأس نفسها، بالأمس في ساحات الجهاد ضد الطليان والفرنسيين حين التحفت عمامة عمر المختار بعقال الأمير عبد القادر الجزائري، واليوم بكل هذا الشموخ في وجه الفيضانات والأعاصير، بما فيها إعصار التطبيع الذي يتهدّد اليوم أسوار "جبهة الصمود والتصدي" التي أرسى بنيانها الراحلان القذافي وهواري بومدين، بعدما ضربت سيوله الجارفة، بداية من مراكش إلى آخر أطراف نجلاء المنقوش.

133E9202-5916-4876-BAE6-293DD70280C0
حسان زهار

كاتب وإعلامي جزائري، تولى رئاسة تحرير صحف جزائرية يومية وأسبوعية