الجزائر والمغرب .. الانزلاق نحو الهاوية
يدخل جناح الأمة الغربي أخطر مراحله التاريخية. وقد تم أخيراً تجاوز الخطوط الحمراء في العلاقات المتوترة أصلاً بين الجزائر والمغرب، بإعلان الأخير، ولأول مرة في تاريخه، دعمه تقسيم دولة شقيقة وجارة، هي الجزائر، من خلال مقاربة غير منهجية لدعم "تقرير مصير منطقة القبائل" التي تقع شرقي العاصمة الجزائرية، مع قضية "تقرير مصير الصحراء الغربية" الذي ترفعه الجزائر منذ أكثر من 45 سنة... لتدخل المنطقة بذلك رسمياً في أخطر لعبةٍ يمكن أن تلعب على الإطلاق، وهي تحريك الإثنيات والهويات النائمة، ضمن أدوات الصراع الجديدة.
يشدّ المغرب العربي أنفاسه إذاً، وقد دخلت المنطقة كلها، بعد خراب المشرق العربي، إلى ما سمّاه مجلس الأمة الجزائري (الغرفة العليا للبرلمان) في حالة الانزلاق نحو الهاوية التي تعني أنّ الأمة اليوم تقف على بركانٍ يغلي، وقد بدأت حممه تتصاعد في السماء، ذلك أنّ النظام في الجزائر، ومعه جلّ الطبقة السياسية والنخب المثقفة وأغلبية الشعب، توافقوا جميعاً في ردودهم على ما حصل، على اعتبار دعوة المغرب عبر المذكرة التي وزعها خلال اجتماع لدول عدم الانحياز على سفراء الدول الأعضاء في نيويورك، يومي 13 و14 يوليو/ تموز الجاري، على أنّها خطوة "خطيرة للغاية" و"غير محسوبة العواقب" تجاه الجزائر، وأنّها أيضاً "تجاوزت الخطوط الحمراء" التي ظلت تحكم العلاقات الجزائرية - المغربية، وأنّها "سلوك خطير يدفع نحو الفتنة" التي ستنقلب إلى داخل حدود المغرب المعترف بها دولياً، في إشارة إلى إمكانية تحريك الجزائر ملف الحركات الانفصالية المغربية على غرار منطقة الريف، بل اعتبرت الأحزاب السياسية ما حصل من السفير المغربي لدى الأمم المتحدة، عمر هلال، الذي وزّع خريطة الجزائر منقوصة من منطقة القبائل، صراحةً، بأنّه بمثابة "إعلان حرب" على الجزائر دولة وشعباً.
نحن، إذاً، من دون مبالغة، أمام أخطر أزمة في تاريخ البلدين منذ حرب الرمال التي اندلعت عام 1963، أي بعد عام من استقلال الجزائر. وللمفارقة، أدّت تلك الحرب إلى وقف تمرّد مسلح في منطقة القبائل نفسها التي يُراد لها اليوم "الانفصال" بعدما ترك رجال القبائل السلاح وحربهم ضد نظام أحمد بن بلة، وانضموا إلى قوات الجيش الوطني الشعبي الجزائري في الدفاع عن حرمة التراب الوطني ووحدته في مواجهة الهجوم المغربي.
لا تبدو الأزمة الحالية تشبه ما سبقها من أزماتٍ في العقود الماضية، لأنّ السياقات الدولية المرافقة لها تجعلها خارج إمكانية أن تكون فعلاً منعزلاً يمكن تصحيحه دبلوماسياً
غير أنّ هذه الأزمة يمكن أن تكون أخطر من حرب الرمال نفسها، وربما أخطر حتى من أزمة الصحراء الغربية أيضاً، التي تفجّرت عام 1975، بكل ما عرفته من مواجهات عسكرية بين البلدين، على هامش الأزمة في موقعتي أمقالا 1 وأمقالا 2 وغيرهما، وأخطر حتى من عملية "كاب سيقلي" عام 1978 في أثناء مرض وفاة الرئيس هواري بومدين، وكان غرضها دفع منطقة القبائل إلى التمرّد المسلح، كما أنّها أبعد بكثير عن أجواء قرار إغلاق الحدود بين البلدين عام 1994 عقب تفجيرات في مراكش. ذلك أنّ الأجواء في الجزائر، بعد الذي حدث هذه الأيام، مشحونة للغاية شعبياً ورسمياً، لأنّها ارتبطت لأول مرة بالمسّ مباشرةً بسلامة الوحدة الترابية للجزائر بهذا الشكل، الأمر الذي أدّى، في هذه الأثناء، إلى ارتفاع أصوات كثيرة داخل الجزائر لطرد السفير المغربي، وإعلان الدعم الصريح لما باتت تسمّى "جمهورية الريف الديمقراطية" بل هناك من يتحدث في الجزائر صراحة عن حتمية الردّ "بقوة وعزم" بكلّ احتمالات الردّ المفتوحة.
ولا تبدو الأزمة الحالية تشبه في شيءٍ ما سبقها من أزماتٍ على مرّ العقود الماضية، لأنّ السياقات الدولية المرافقة لها تجعلها في غاية الخطورة، وخارج إمكانية أن تكون فعلاً منعزلاً يمكن تصحيحه دبلوماسياً، حتى وإن كانت الخارجية الجزائرية فضّلت التريث في بيانها عن الأزمة، وطالبت بتوضيحاتٍ رسمية. ذلك أنّ ما يحصل اليوم هو نتيجة سلسلة من التطورات المتتابعة شديدة الحساسية، بدأت بحادثة اقتحام قوات الجيش المغربي منطقة الكركرات، جنوبي الصحراء، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وما أعقبها من إعلان جبهة "بوليساريو" نهاية اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقع عام 1991، وبالتالي استمرار الكفاح الحربي، مع استمرار الرفض المتبادل لجميع الأسماء المقترحة لمنصب المبعوث الشخصي الأممي إلى الصحراء الغربية منذ استقالة الرئيس الألماني السابق، هورست كولر، في مايو/ أيار 2019. إضافة إلى دخول المغرب مرحلة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي مقابل اعتراف الولايات المتحدة في أيام رئيسها، دونالد ترامب، الأخيرة، بمغربية الصحراء. وما أعقب ذلك من تصريحات جزائرية على لسان الرئيس عبد المجيد تبون، عن رفض بلاده القاطع سياسة "الهرولة" نحو التطبيع، والتي دفعت عواصم عربية، مطبعة وغيرها، إلى فتح قنصليات لها في مدينة العيون الصحراوية... وكلّها كما يبدو كانت خطواتٍ تمهيدية لإشعال المنطقة المغاربية، عبر إخراج فتيل الخلاف التاريخي الجزائري - المغربي، وتوفير مزيد من مادة الكبريت حوله بقصد إحداث الانفجار الكبير.
ضاعفت الجزائر مناوراتها العسكرية الضخمة بالذخيرة الحية قرب الحدود مع المغرب، وفعل المغرب الشيء نفسه، قبل أن يصل الأمر إلى نقطة في غاية الخطورة
بعدها، تدحرجت كرة النار إلى أبعد ما يمكن، في محيطٍ قلنا إنّه أشبه ببيئة بركانية تتطاير فيها ومن حولها الحمم الحارقة، فقد ضاعفت الجزائر مناوراتها العسكرية الضخمة بالذخيرة الحية قرب الحدود مع المغرب، وفعل المغرب الشيء نفسه، قبل أن يصل الأمر إلى نقطة في غاية الخطورة، في أعقاب مناورات "الأسد الأفريقي" التي قادتها الولايات المتحدة على الأراضي المغربية، ليتضح أنّها مناوراتٌ لاستهداف الدفاعات الجوية الجزائرية المتطوّرة، وفي مقدمتها منظومة "إس 400" قبل أن تنتهي كرة النار الحارقة إلى حافة الهاوية الحالية.
ولا يستبعد، للأسف، أن تتطور الأمور إلى ما هو أسوأ بين البلدين الشقيقين، في ظلّ التراشق الإعلامي وعبر مواقع التواصل، في ظلّ حملاتٍ دعائية من الجانبين، يحمّل فيها كلّ طرفٍ الطرف الآخر مسؤولية انهيار حلم المغرب العربي الذي داعب أحلام الآباء والأجداد، وجعل من مطالب بناء شمال أفريقيا الذي ميز نضالات الحركة الوطنية في البلدين خلال الاستعمار، تتهاوى بشكلٍ غير معقول.
بالنسبة للنوستالجيا المغربية، فإنّ ما حصل في نيوريوك، رد طبيعي على إصرار النظام الجزائري العبث بالوحدة الترابية المغربية طوال 45 سنة، في حين يتبرّم الجزائريون من ذلك كثيراً، لأنّهم يعتقدون أنّ قضية الصحراء الغربية هي ملفٌّ في أدراج الأمم المتحدة، ولا يمكن إطلاقاً مقاربتها بالقضية القبائلية التي كانت دائماً وأبداً أرضاً جزائرية خالصة، ولم تكن يوماً متنازعاً عليها، فقد مارس أهل القبائل فعلياً حقهم في تقرير المصير مع بقية الشعب الجزائري، عندما شاركوا في استفتاء الاستقلال في يوليو/ تموز 1962، علاوة على أنّهم كانوا في طليعة جيش التحرير الوطني الجزائري، من أجل استقلال كلّ شبر من أرض الجزائر الحالية، بما فيها منطقة القبائل التي دفعت أثماناً غالية، لكي تكون وتبقى جزائرية إلى الأبد.
مشروع التخريب العربي انتقل عملياً من المشرق العربي إلى مغربه
أما النوستالجيا الجزائرية، في المقابل، فهي هذه الدهشة من دعم نظام مغربي، ظلّ يُنعت بالشقيق، على الرغم من كلّ الخلافات والاختلافات، حركة انفصالية في الجزائر، معروفة بعدائها للعروبة والإسلام عداء وجودياً، علاوة على عمالتها وعلاقاتها الوثيقة مع إسرائيل. والأمر الذي يرفضه الجزائريون أن تسقط دولة شقيقة وجارة، تشترك معها في كلّ شيء تقريباً؛ في الدين واللغة والتاريخ المشترك، بل وفي النضال والكفاح جنباً إلى جنب من أجل الاستقلال، لتكون الدولة الثانية بعد إسرائيل التي تعترف بالحركة الانفصالية القبائلية.
إنه أمرٌ مثيرٌ للشجن حقاً، حتى وإن ذهب بعض المغاربة إلى اعتبار ذلك انتقاماً من تعنت النظام العسكري في الجزائر لفصل الصحراء عن المغرب، ودعم جبهة بوليساريو بالمال والسلاح والدبلوماسية، ذلك أنّنا بهذا نكون قد فتحنا على أنفسنا أبواب جهنم، حقيقة وليس مجازاً. ولن يكون الانزلاق نحو الهاوية بعدها صعباً على الإطلاق، إذ يكفي أن يخصّص كلّ نظام ميزانية معينة لدعم الحركات الانفصالية في البلد الآخر، حتى يبدأ مشروع تفتيت المفتّت الذي ترعاه الصهيونية العالمية.
لقد تأكد، الآن، أنّ مشروع التخريب العربي قد انتقل عملياً من المشرق العربي إلى مغربه، ولن تكون الأيادي الصهيونية التي سوف تراهن على المكوّنات الإثنية غير العربية، وفي مقدمها المكون الأمازيغي، على غرار الكردي في المشرق، بعيدة أبداً عن صناعة هذا الخراب المرتقب، فقد تمكن المغرب والجزائر معاً، بفضل ما يمتلكانه من خبرة في تجاوز تداعيات حراكين كبيرين داخل البلدين، من تجاوز خرابٍ كبير كان يمكن أن يحيل مدن المغرب الجميلة ومدن الجزائر الساحرة إلى مدن أشباح على طريقة حلب وبنغازي، وهو ما يكون قد أغاظ أعداء الأمة كثيراً، خصوصاً أنّ البلدين يعدّان من أقوى البلدان العربية، وأكثرها كثافة سكانية، وأوفرها إمكانات اقتصادية، فكان لا بد إذاً من المرور إلى الخطة "ب" للإجهاز على البلدين، عبر تحريك قنبلة الحدود الموروثة من الاستعمار وقضية الإثنيات والحركات الانفصالية، في سبيل إشعال مواجهة كبرى بين البلدين، تذكّر بخراب الحرب العراقية الإيرانية.
يحتاج الأمر إلى عقول رزينة، وإلى استحضار التاريخ والمصير المشترك، وإلى أواصر المحبّة الوثيقة بين الشعبين، المغربي والجزائري، لتجاوز حسابات الأنظمة المرتبطة وظيفيا بقوى دولية متصارعة، لتفادي تلك الهاوية التي تتصاعد منها ألسنة اللهب الأسود، وتدفع إليها بمكر شديد أيادٍ خبيثة ومجرمة.