31 أكتوبر 2024
عن اليسار السوري المشلول
يدفع الفشل الديموقراطي العلماني المتراكم في سورية إلى مراجعة تاريخنا القريب بما نستطيع من موضوعية، ذلك أن الجيل السوري الشاب اليوم، ينفعل بآثار أمراض سياسية/ نفسية قادمة إليه من فتراتٍ لم يعاصرها، ولا يستطيع فكّ شيفرتها، منها العلاقة غير السوية بين رابطة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي، والتي لم تزل مفاعيلها حتى اليوم.
إضافة إلى الهويات المعهودة، أكانت دينية أو إثنية أو قومية، برزت في سورية هوياتٌ سياسية، ليس بمعنى الخط أو التوجه السياسي العام، بل بمعنى تحوّل الانتماء السياسي إلى هوية، بكل ما تحمل الهوية من انغلاقٍ ونهائية وديمومة. في فترة ما بعد الاستقلال، شهدت سورية تبلور هويات سياسية، بمعنى التوجه السياسي العام المعبر عن مصالح قطاعاتٍ معينةٍ من المجتمع، ظهر هذا في العلاقة بين حزب الشعب والحزب الوطني مثلاً، تعبيرا سياسيا عن التباين بين مصالح بورجوازية حلبية وحمصية وحموية، تميل إلى الشرق (العراق) ومصالح بورجوازية دمشقية، تميل إلى الغرب والجنوب (مصر والسعودية).
هنا، نحن أمام مصالح طبقية تنعكس في مواقف وسياسات، وهذا يعطي للسياسة تعريفها وحيويتها، ويبقيها على صلةٍ بأرض الصراعات وتقلباتها، لكن ما شهده العمل اليساري المعارض في سورية بعد انقلاب 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970 هو بروز هوياتٍ سياسيةٍ، لا تقوم على مصالح طبقات اجتماعية، بل بالأحرى على تباين الاجتهادات السياسية واختلاف التصورات والأفكار والظنون، وأكاد أقول السمات الشخصية. المثال الأبرز على هذه الظاهرة المرضية هو العلاقة السياسية التي تحولت إلى علاقة "هوياتية" بين رابطة العمل الشيوعي (صار اسمها حزب العمل الشيوعي) والحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي (صار اسمه حزب الشعب الديموقراطي).
ظلت الرابطة، كما المكتب السياسي، تنظيمين نخبويين، على الرغم من تفاوت درجة النخبوية. وعلى الرغم من كفاحية أبناء التنظيمين، فقد ظلا جسديْن مقطوعيْن إلى حد كبير عن القاعدة الاجتماعية التي يتصوّران أنهما يمثلانها. أضعف هذا مما يمكن تسميتها الحساسية الطبقية، أي ربط السياسة والتوجه بالمصلحة الطبقية الحية التي يكافحان لتمثيلها سياسياً، فلا تغدو المواقف السياسية مجرّد مواقف ذهنية. لا يتحمّل أيٌّ من هذين التنظيمين مسؤولية هذا الواقع، إنهما بالأحرى ضحيتاه. تقع المسؤولية على عاتق القمع الرهيب المستمر الذي استهدفهما، وعلى عاتق تطور اقتصادي اجتماعي معاق في هذه البلدان، لكن ما يتحملان مسؤوليته هو استسلامهما لهذا التحول الهوياتي الذي ترك أثره على "العمل اليساري المعارض" العقيم في سورية حتى اليوم.
انتقال العلاقة السياسية من المستوى السياسي إلى المستوى النفسي يفسد المستويين معاً. الخلافات السياسية التي تتخذ لها، في بيئاتنا، أبعاداً شخصية وتحرّض في النفوس غريزة الإلغاء والتدمير بدلا من غريزة الاجتماع تترسب، مع الوقت، على صعيد نفسي وشخصي، وليس سياسيا فقط، وتعيق العمل المشترك. ثمة عامل مُطلِق لهذه الآلية، وغالباً ما يكون تقديراً خاطئاً أو سوء ظن أو استجابة غير مسؤولة لنزوع شخصي عند أشخاصٍ مؤثرين، لكنه يبقى عاملاً تافهاً إذا ما قورن بمدى الأثر الذي يتركه على مجمل الحياة السياسية في البلاد، ومن هنا منبع اللامسؤولية.
في البحث عن لحظة التأسيس الهوياتية بين التنظيمين المذكورين، يمكن التوقف عند حقيقة أن نشوء تنظيم الرابطة (رابطة العمل الشيوعي) كان مزامناً لعملية الانشقاق المديد للمكتب السياسي عن الحزب الأم بزعامة خالد بكداش (بين المؤتمر الثالث في يونيو/حزيران 1969- وأول مؤتمر مستقل للمكتب السياسي، في ديسمبر/كانون الأول 1973)، ومزامناً بداية نشاط المكتب السياسي حزبا مستقلا. كانت الحلقات الماركسية، خلال هذه الفترة، والتي صارت لاحقاً إلى رابطة العمل الشيوعي، في أغسطس/آب 1976، تنتقد "المكتب السياسي" من اليسار في أدبياتها، ولا يكفّ أعضاؤها عن محاورة أعضاء المكتب السياسي، في محاولة كسبهم سياسياً أو تنظيمياً. وكان لهذا السلوك "التوسعي" تأثير سلبي على صورة الرابطة لدى قيادة المكتب السياسي التي اتخذت، في ربيع 1977، قراراً رسمياً يمنع كل أعضاء الحزب من الدخول في أي حوارٍ مع الرابطة، بحسب محمد سيد رصاص، أحد قياديي المكتب السياسي حينها.
وفي حين كان "المكتب السياسي" ينتقل بحذرٍ إلى مواقع معارضة للنظام، ببنيةٍ تنظيميةٍ مكشوفةٍ لا تحتمل المواجهة الأمنية التي تترتب على اتخاذ مواقف حادّة، كانت الرابطة أكثر استعداداً للمواجهة الأمنية، وقد دخلتها من دون تردّد، وبطريقة تبدو انتحارية، في مواجهة التدخل السوري في لبنان 1976، فتلقت ضربةً أمنيةً شديدةً ومفاجئة في مارس/آذار 1977، كادت تكون قاصمة، بعد أقل من ستة أشهر من تأسيسها. وعلى إثر الحملة الثانية في مايو/أيار 1978، ناقشت الرابطة الاندماج مع المكتب السياسي. تباينت الآراء بين متحمّسٍ للاندماج الفردي، معولاً على أن يكون الجسم التنظيمي للمكتب السياسي حاضنة وحاميا له، ومن وافق على الاندماج، ولكن ككتلة تنظيمية لها استقلاليتها، بينما لم يمانع آخرون في الاندماج أفرادا، شريطة وجود مجلة داخلية لنشر الآراء والاجتهادات التي قد تتباين مع خط الحزب، لكن لم تلق هذه الأفكار موقفاً إيجابياً من الحزب الشيوعي، وما وضع حدا لهذا الاجتهاد أن الرابطة استطاعت أن تتماسك تنظيمياً مجدّداً، وتكمل مسيرتها الخاصة.
أمام التماسك التنظيمي الذي حققته الرابطة، على الرغم من حملات الاعتقال المتواصلة، والسمعة النضالية التي اكتسبتها، وسعة الانتشار التي حققتها ومواظبتها على إصدار أدبياتها، شعر المكتب السياسي كما لو أن هذا يتحقق على حسابه، كما لو أن هذا الزخم الشبابي الذي يرفد الرابطة مسروق منه، أو كما لو أن الرابطة شكلت حاجزاً بين الشباب والمكتب السياسي. الأمر الذي أدخل الرابطة في دائرة الظنون الأمنية للمكتب السياسي أنها "صنيعة المخابرات السورية"، على الرغم من أن الرابطة كانت ضحية قمع متواصل، وكان محمد عبود، من الرابطة، أول شيوعي يُقتل تحت التعذيب في سورية البعثية. وفي المقابل، واصلت الرابطة نقد المكتب السياسي من اليسار بوصفه "إصلاحياً" و"مخيباً للأمل". وهكذا راحت القشرة الخارجية للهويتين تتكلس وتتصلب، إزاء بعضهما بعضا، وتستقل عن السياسة.
لم يكن الموقف السياسي من الحراك الشعبي الذي استجرّه الصعود العنيف لجماعة الإخوان المسلمين، في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، سبب التباين بين التنظيمين، فقد كان الاختلاف بينهما قد غادر منذ مدة مجاله السياسي، ليستقر أساساً في نفوس أبناء التنظيمين، وإنْ بدرجةٍ متفاوتةٍ، كانت، في الحقيقة، أعلى لدى المكتب السياسي. في ذلك الوقت، كانت كل زهور الأمل بعمل مشترك بين التنظيمين قد سقطت من دون أن يتبقى أمل بانعقاد أي ثمرة.
رأى المكتب السياسي أن الصراع يدور بين النظام الديكتاتوري والشعب، ما يستدعي تصويب النيران إلى النظام أساساً أو فقط، ورأت الرابطة أن الصراع يدور بين قطبين من طبيعة واحدة، هما النظام والإخوان المسلمين، وأن الخلاص يكون بالنضال ضد الطرفين، وسحب الكتلة الشعبية من تحت تأثيرهما بتشكيل قطبٍ شعبيٍّ ثالث، ما يستدعي توجيه النيران إلى الطرفين (النظام والإخوان).
بدا موقف الرابطة في عين المكتب السياسي مهادناً للنظام، باعتبار أن الرابطة لا ترى البعد الشعبي في الصراع، وتركّز على الإخوان المسلمين، وأعمالهم العنيفة ذات الطابع الطائفي (نموذجها مجزرة المدفعية في يونيو/حزيران 1979)، على الرغم من أن الرابطة كانت، في الواقع، توجّه نيرانها الأكثف ضد النظام، وكان التنظيم اليساري الوحيد، حينها، الذي تبنّى شعار إسقاط السلطة الديكتاتورية البعثية في اجتماع مركزيته في سبتمبر/أيلول 1979، قبل أن تجمّد هذا الشعار في أغسطس/آب 1980، حين لاح لها الإخفاق في بناء التحالف الشعبي الذي يمكن أن يكون أداة إسقاط السلطة، فيما بدا لها أن ما كنت تسمّيه "الحلف الرجعي الأسود" كناية عن الإخوان المسلمين وحلفائهم، يتقدّم بخطى ثابتة للاستيلاء على السلطة.
في المقابل، رأت الرابطة أن المكتب السياسي يهادن "الإخوان" على الرغم من أعمالهم وارتباطاتهم وبرنامجهم، ويتخلى بذلك عن مهمته التاريخية نقيضا لطرفي الصراع. واعتبرت أن المكتب السياسي سمح لنفسه أن يكون ملحقاً بالإخوان، كما سمح خالد بكداش لنفسه بأن يكون ملحقاً بالنظام. مع ذلك، استطاعت الرابطة أن تحاور فيما بعد بكداش، على الرغم من قسوة نقدها له، لكن هذا لم يكن ممكناً مع المكتب السياسي، لأسبابٍ نفسيةٍ أكثر منها سياسية.
تشكّل التحالف اليساري، في ديسمبر/كانون الأول 1976، باسم "التجمع الوطني الديموقراطي"، واستبعدت الرابطة من التحالف، باعتراضٍ من المكتب السياسي، كما نقل إلى قيادتها رئيس التجمع، جمال الأتاسي. لا نظن أن هناك من يجادل في أن هذا الاستبعاد كان خسارة للجانبين. ونسبة كبيرة من المعارضين السوريين الديموقراطيين والعلمانيين اليوم كانوا، أو ما زالوا، منضوين في صفوف الحزبين، ونظن أن الغالبية منهم يحملون موقفاً نفسياً صادّاً تجاه الآخر، يعرقل الرؤية الموضوعية والعمل المشترك. الأخطر أن هذه المواقف النفسية تديم ذاتها بالانتقال إلى أجيالٍ لم تعشها أصلاً، فتزيد من الانقسامات في الصف الديموقراطي السوري الذي تحوّل إلى مجرد شاهدٍ مشلولٍ على ما يجري حوله.
إضافة إلى الهويات المعهودة، أكانت دينية أو إثنية أو قومية، برزت في سورية هوياتٌ سياسية، ليس بمعنى الخط أو التوجه السياسي العام، بل بمعنى تحوّل الانتماء السياسي إلى هوية، بكل ما تحمل الهوية من انغلاقٍ ونهائية وديمومة. في فترة ما بعد الاستقلال، شهدت سورية تبلور هويات سياسية، بمعنى التوجه السياسي العام المعبر عن مصالح قطاعاتٍ معينةٍ من المجتمع، ظهر هذا في العلاقة بين حزب الشعب والحزب الوطني مثلاً، تعبيرا سياسيا عن التباين بين مصالح بورجوازية حلبية وحمصية وحموية، تميل إلى الشرق (العراق) ومصالح بورجوازية دمشقية، تميل إلى الغرب والجنوب (مصر والسعودية).
هنا، نحن أمام مصالح طبقية تنعكس في مواقف وسياسات، وهذا يعطي للسياسة تعريفها وحيويتها، ويبقيها على صلةٍ بأرض الصراعات وتقلباتها، لكن ما شهده العمل اليساري المعارض في سورية بعد انقلاب 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970 هو بروز هوياتٍ سياسيةٍ، لا تقوم على مصالح طبقات اجتماعية، بل بالأحرى على تباين الاجتهادات السياسية واختلاف التصورات والأفكار والظنون، وأكاد أقول السمات الشخصية. المثال الأبرز على هذه الظاهرة المرضية هو العلاقة السياسية التي تحولت إلى علاقة "هوياتية" بين رابطة العمل الشيوعي (صار اسمها حزب العمل الشيوعي) والحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي (صار اسمه حزب الشعب الديموقراطي).
ظلت الرابطة، كما المكتب السياسي، تنظيمين نخبويين، على الرغم من تفاوت درجة النخبوية. وعلى الرغم من كفاحية أبناء التنظيمين، فقد ظلا جسديْن مقطوعيْن إلى حد كبير عن القاعدة الاجتماعية التي يتصوّران أنهما يمثلانها. أضعف هذا مما يمكن تسميتها الحساسية الطبقية، أي ربط السياسة والتوجه بالمصلحة الطبقية الحية التي يكافحان لتمثيلها سياسياً، فلا تغدو المواقف السياسية مجرّد مواقف ذهنية. لا يتحمّل أيٌّ من هذين التنظيمين مسؤولية هذا الواقع، إنهما بالأحرى ضحيتاه. تقع المسؤولية على عاتق القمع الرهيب المستمر الذي استهدفهما، وعلى عاتق تطور اقتصادي اجتماعي معاق في هذه البلدان، لكن ما يتحملان مسؤوليته هو استسلامهما لهذا التحول الهوياتي الذي ترك أثره على "العمل اليساري المعارض" العقيم في سورية حتى اليوم.
انتقال العلاقة السياسية من المستوى السياسي إلى المستوى النفسي يفسد المستويين معاً. الخلافات السياسية التي تتخذ لها، في بيئاتنا، أبعاداً شخصية وتحرّض في النفوس غريزة الإلغاء والتدمير بدلا من غريزة الاجتماع تترسب، مع الوقت، على صعيد نفسي وشخصي، وليس سياسيا فقط، وتعيق العمل المشترك. ثمة عامل مُطلِق لهذه الآلية، وغالباً ما يكون تقديراً خاطئاً أو سوء ظن أو استجابة غير مسؤولة لنزوع شخصي عند أشخاصٍ مؤثرين، لكنه يبقى عاملاً تافهاً إذا ما قورن بمدى الأثر الذي يتركه على مجمل الحياة السياسية في البلاد، ومن هنا منبع اللامسؤولية.
في البحث عن لحظة التأسيس الهوياتية بين التنظيمين المذكورين، يمكن التوقف عند حقيقة أن نشوء تنظيم الرابطة (رابطة العمل الشيوعي) كان مزامناً لعملية الانشقاق المديد للمكتب السياسي عن الحزب الأم بزعامة خالد بكداش (بين المؤتمر الثالث في يونيو/حزيران 1969- وأول مؤتمر مستقل للمكتب السياسي، في ديسمبر/كانون الأول 1973)، ومزامناً بداية نشاط المكتب السياسي حزبا مستقلا. كانت الحلقات الماركسية، خلال هذه الفترة، والتي صارت لاحقاً إلى رابطة العمل الشيوعي، في أغسطس/آب 1976، تنتقد "المكتب السياسي" من اليسار في أدبياتها، ولا يكفّ أعضاؤها عن محاورة أعضاء المكتب السياسي، في محاولة كسبهم سياسياً أو تنظيمياً. وكان لهذا السلوك "التوسعي" تأثير سلبي على صورة الرابطة لدى قيادة المكتب السياسي التي اتخذت، في ربيع 1977، قراراً رسمياً يمنع كل أعضاء الحزب من الدخول في أي حوارٍ مع الرابطة، بحسب محمد سيد رصاص، أحد قياديي المكتب السياسي حينها.
وفي حين كان "المكتب السياسي" ينتقل بحذرٍ إلى مواقع معارضة للنظام، ببنيةٍ تنظيميةٍ مكشوفةٍ لا تحتمل المواجهة الأمنية التي تترتب على اتخاذ مواقف حادّة، كانت الرابطة أكثر استعداداً للمواجهة الأمنية، وقد دخلتها من دون تردّد، وبطريقة تبدو انتحارية، في مواجهة التدخل السوري في لبنان 1976، فتلقت ضربةً أمنيةً شديدةً ومفاجئة في مارس/آذار 1977، كادت تكون قاصمة، بعد أقل من ستة أشهر من تأسيسها. وعلى إثر الحملة الثانية في مايو/أيار 1978، ناقشت الرابطة الاندماج مع المكتب السياسي. تباينت الآراء بين متحمّسٍ للاندماج الفردي، معولاً على أن يكون الجسم التنظيمي للمكتب السياسي حاضنة وحاميا له، ومن وافق على الاندماج، ولكن ككتلة تنظيمية لها استقلاليتها، بينما لم يمانع آخرون في الاندماج أفرادا، شريطة وجود مجلة داخلية لنشر الآراء والاجتهادات التي قد تتباين مع خط الحزب، لكن لم تلق هذه الأفكار موقفاً إيجابياً من الحزب الشيوعي، وما وضع حدا لهذا الاجتهاد أن الرابطة استطاعت أن تتماسك تنظيمياً مجدّداً، وتكمل مسيرتها الخاصة.
أمام التماسك التنظيمي الذي حققته الرابطة، على الرغم من حملات الاعتقال المتواصلة، والسمعة النضالية التي اكتسبتها، وسعة الانتشار التي حققتها ومواظبتها على إصدار أدبياتها، شعر المكتب السياسي كما لو أن هذا يتحقق على حسابه، كما لو أن هذا الزخم الشبابي الذي يرفد الرابطة مسروق منه، أو كما لو أن الرابطة شكلت حاجزاً بين الشباب والمكتب السياسي. الأمر الذي أدخل الرابطة في دائرة الظنون الأمنية للمكتب السياسي أنها "صنيعة المخابرات السورية"، على الرغم من أن الرابطة كانت ضحية قمع متواصل، وكان محمد عبود، من الرابطة، أول شيوعي يُقتل تحت التعذيب في سورية البعثية. وفي المقابل، واصلت الرابطة نقد المكتب السياسي من اليسار بوصفه "إصلاحياً" و"مخيباً للأمل". وهكذا راحت القشرة الخارجية للهويتين تتكلس وتتصلب، إزاء بعضهما بعضا، وتستقل عن السياسة.
لم يكن الموقف السياسي من الحراك الشعبي الذي استجرّه الصعود العنيف لجماعة الإخوان المسلمين، في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، سبب التباين بين التنظيمين، فقد كان الاختلاف بينهما قد غادر منذ مدة مجاله السياسي، ليستقر أساساً في نفوس أبناء التنظيمين، وإنْ بدرجةٍ متفاوتةٍ، كانت، في الحقيقة، أعلى لدى المكتب السياسي. في ذلك الوقت، كانت كل زهور الأمل بعمل مشترك بين التنظيمين قد سقطت من دون أن يتبقى أمل بانعقاد أي ثمرة.
رأى المكتب السياسي أن الصراع يدور بين النظام الديكتاتوري والشعب، ما يستدعي تصويب النيران إلى النظام أساساً أو فقط، ورأت الرابطة أن الصراع يدور بين قطبين من طبيعة واحدة، هما النظام والإخوان المسلمين، وأن الخلاص يكون بالنضال ضد الطرفين، وسحب الكتلة الشعبية من تحت تأثيرهما بتشكيل قطبٍ شعبيٍّ ثالث، ما يستدعي توجيه النيران إلى الطرفين (النظام والإخوان).
بدا موقف الرابطة في عين المكتب السياسي مهادناً للنظام، باعتبار أن الرابطة لا ترى البعد الشعبي في الصراع، وتركّز على الإخوان المسلمين، وأعمالهم العنيفة ذات الطابع الطائفي (نموذجها مجزرة المدفعية في يونيو/حزيران 1979)، على الرغم من أن الرابطة كانت، في الواقع، توجّه نيرانها الأكثف ضد النظام، وكان التنظيم اليساري الوحيد، حينها، الذي تبنّى شعار إسقاط السلطة الديكتاتورية البعثية في اجتماع مركزيته في سبتمبر/أيلول 1979، قبل أن تجمّد هذا الشعار في أغسطس/آب 1980، حين لاح لها الإخفاق في بناء التحالف الشعبي الذي يمكن أن يكون أداة إسقاط السلطة، فيما بدا لها أن ما كنت تسمّيه "الحلف الرجعي الأسود" كناية عن الإخوان المسلمين وحلفائهم، يتقدّم بخطى ثابتة للاستيلاء على السلطة.
في المقابل، رأت الرابطة أن المكتب السياسي يهادن "الإخوان" على الرغم من أعمالهم وارتباطاتهم وبرنامجهم، ويتخلى بذلك عن مهمته التاريخية نقيضا لطرفي الصراع. واعتبرت أن المكتب السياسي سمح لنفسه أن يكون ملحقاً بالإخوان، كما سمح خالد بكداش لنفسه بأن يكون ملحقاً بالنظام. مع ذلك، استطاعت الرابطة أن تحاور فيما بعد بكداش، على الرغم من قسوة نقدها له، لكن هذا لم يكن ممكناً مع المكتب السياسي، لأسبابٍ نفسيةٍ أكثر منها سياسية.
تشكّل التحالف اليساري، في ديسمبر/كانون الأول 1976، باسم "التجمع الوطني الديموقراطي"، واستبعدت الرابطة من التحالف، باعتراضٍ من المكتب السياسي، كما نقل إلى قيادتها رئيس التجمع، جمال الأتاسي. لا نظن أن هناك من يجادل في أن هذا الاستبعاد كان خسارة للجانبين. ونسبة كبيرة من المعارضين السوريين الديموقراطيين والعلمانيين اليوم كانوا، أو ما زالوا، منضوين في صفوف الحزبين، ونظن أن الغالبية منهم يحملون موقفاً نفسياً صادّاً تجاه الآخر، يعرقل الرؤية الموضوعية والعمل المشترك. الأخطر أن هذه المواقف النفسية تديم ذاتها بالانتقال إلى أجيالٍ لم تعشها أصلاً، فتزيد من الانقسامات في الصف الديموقراطي السوري الذي تحوّل إلى مجرد شاهدٍ مشلولٍ على ما يجري حوله.