بعد قضية خاشقجي: السعودية إلى أين؟

17 أكتوبر 2018
+ الخط -
تشكّل جريمة قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، مرحلةً جديدة من تصاعد الضغوط الخارجية والداخلية على السعودية، بما قد يقود هذه البلاد إلى سيناريوهات خطرة، تفتح الباب على أسئلةٍ مشروعةٍ بشأن مستقبل المملكة في المدى المنظور، خصوصاً في حال نجاحها في "لملمة" آثار هذه الجريمة، واستمرار محمد بن سلمان في منصبه ولياً للعهد.
وبغض النظر عن كشف تفاصيل تلك الجريمة أو إخفائها، والمدى الزمني المطلوب لذلك، وإمكانية حدوث صفقات/ تسويات من عدمه، فإنها تركت تداعياتٍ مهمّةً على العلاقات السعودية مع كل من واشنطن وأنقرة وبعض العواصم الأوروبية وأوتاوا، وكذلك على صورة السعودية الخارجية واقتصادها وعملتها ومشروعاتها واستثماراتها، ولا سيما إمكانية تنفيذ "رؤية 2030".
ثمّة عاملان يتحكمان في تداعيات أزمة خاشقجي وتفاعلاتها المستقبلية؛ أحدهما درجة حِدّة/ قوة الموقف الذي سيتخذه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لا سيما بعد أن تحوّلت الأزمة إلى قضية رأي عام بدرجة ما، ودخل فيها ضغط مؤسسات صحافية وإعلامية وحقوقية كبرى، ناهيك بأنها جاءت في توقيت بالغ الحرج بالنسبة إلى ترامب، بسبب انتخابات التجديد النصفي في الكونغرس الشهر المقبل.
وهذا هو سبب ضغوط المشرّعين الأميركيين على ترامب، لكي يتخذ موقفاً صارماً أكثر، 
ومطالبتهم له بتطبيق "قانون ماغنيتسكي" ومعاقبة كل مسؤول سعودي متورّط في جريمة قتل خاشقجي، لكن ترامب فضّل، حتى وقت كتابة هذه السطور، التلويح بموقف لفظي/ إعلامي يستخدم مصطلح "عقوبات شديدة" إذا ثبت تورّط السعوديين، مع التذكير بأن مشتريات الأسلحة السعودية (تبلغ 110 مليارات دولار) قد تذهب إلى الصين أو روسيا، بما يعنيه ذلك من خسارة الوظائف للأميركيين. ثم جاءت زيارة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى السعودية، بعد تصريح ترامب بأن ملك السعودية وولي عهده لم يكونا على علم بمسألة قتل خاشقجي، وأن "ضباطاً مارقين" قد يكونون خلف الجريمة.
وبغض النظر عن هذا التصريح، قد تكون جولة بومبيو أحد مفاتيح حل الأزمة، وتثبيت "تفاهمات معينة" بين واشنطن وأنقرة والرياض بشأن "طريقةٍ ما"، لإرضاء الأميركيين والأتراك، بما يكفل "اعترافاً ضمنياً"، بمقتل خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، بسبب "خطأ" فريق التحقيق، المكون من 15 سعودياً، والذي كان يهدف إلى اختطاف الرجل وليس قتله. أما العامل الآخر، فهو تأثير أزمة خاشقجي في إبراز مشكلات الحكم في عهد محمد بن سلمان وحصاد سياساته المغامرة على الصعيدين، الداخلي والخارجي، منذ يونيو/ حزيران 2017.
وثمة ثلاثة مؤشرات مهمّة على الصعيد الداخلي؛ أولها أن بداية الأزمة أكّدت تراجع دور وزير الخارجية عادل الجبير في صنع القرار، وأثبتت غياب الدبلوماسية تماماً، وثانيها هيمنة دور ولي العهد ودائرة مستشاريه، ولا سيما سعود القحطاني في بداية هذه الأزمة، وثالثها أن إيفاد خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، وهو مستشار الملك أيضاً، إلى تركيا، ولقاءه الرئيس التركي أردوغان لبحث الأزمة، ثم اتصال الملك سلمان الهاتفي بأردوغان، ثم تصريح ترامب عن "الضباط المارقين" الذين صنعوا الأزمة، قد تشير كلها إلى دخولها مرحلة التهدئة أو التفاهمات/ التسوية.
وبعبارة أخرى، استعان العاهل السعودي ببعض "رجالات الحكم القدامى"، لتحقيق هدفين؛ أحدهما تحسين العلاقات مع تركيا وتجاوز/ احتواء التأثيرات المحتملة للأزمة، والآخر استعادة دور الملك المحوري، بوصفه مركز صنع القرار السعودي.
وثمّة إشارة آنية مهمّة لا تخطئها العين؛ إذ اختار الملك، خالد الفيصل، لترؤس اللجنة المشتركة مع تركيا.
فاستعادة دور الفيصل أو عودة بعض الكتاب والخبراء الأميركيين إلى طرح اسم محمد بن نايف بديلا وحلّا مقبولا لأزمة خاشقجي، بيد أن القول بإمكانية إقصاء بن سلمان، أو إضعاف دوره، سينتظر إلى ما بعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي، والنتائج التي ستفرزها، خصوصاً في ما يتعلق بسلوك الأعضاء الجدد بشأن استهداف الرئيس ترامب، وصهره جاريد كوشنير، من عدمه، علماً أنهما استثمرا كثيراً في بن سلمان، وليس سهلاً أن يتخليا عنه في هذه الأزمة، خصوصاً أن السعودية تشكّل مرتكزاً أساسياً في فكرة "الناتو العربي – الإسرائيلي"، بغرض محاصرة نفوذ إيران الإقليمي، وتكثيف الضغط على اقتصادها ونظامها السياسي، بغض النظر عن إمكانية شن حرب ضد طهران، تبقى على الأرجح غالية الكلفة، وصعبة التنفيذ، لا سيما مع وجود أدوات أخرى متاحة، من قبيل هجوم الأحواز في سبتمبر/ أيلول الماضي.
وحتى بافتراض أنه سيطرأ تعديل على نسبة التوليف بين المبادئ والمصالح في سياسة ترامب تجاه السعودية بعد أزمة خاشقجي، أو بسببها، فإن أصل "جدلية المصالح والقيم" سيبقى صحيحاً؛ فأولوية المصالح الشخصية لترامب وكوشنير على مسألة "دفاع واشنطن المفترض" عن حقوق الإنسان جمال خاشقجي، ودمائه المسفوكة غدراً وظلماً، تجعل سيناريو تهدئة هذه الأزمة واحتوائها الأكثر ترجيحاً على ما سواه.
وعلى الرغم من بعض الإدانات الأوروبية، من قبيل البيان الثلاثي لوزراء خارجية ألمانيا
 وبريطانيا وفرنسا، ثم الاجتماع الوزاري الأوروبي وتصريحات فيديريكا موغيريني مفوضة العلاقات الخارجية والدفاع في الاتحاد بشأن تحقيق شفاف تجريه الرياض، والتعاون مع تركيا في التحقيق بشأن اختفاء خاشقجي، فإن الموقف الأميركي وقدرته على الضغط يبقيان أهم وأكثر تأثيراً في السلوك السعودي.
على الصعيد العربي، لا جديد في أزمة خاشقجي، سوى إعادة تأكيد "غياب الدور وانعدام الرؤية"، بل إن وقوف سبع دول عربية لدعم الرياض لا يبدو مستغرباً في ظل التآكل المزري في "الإطار العربي"؛ فأغلب العرب ليسوا مستعدين للدفاع عن حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير، لا سيما إذا كان ذلك ينطوي على أي تصادم، مهما كان صغيراً مع الرياض وسياساتها "القمعية"، في ظل استعلاء منطق الثورات المضادة على الشعوب، وإصرار السعودية على توجيه رسائل "حازمة" بأنها ماضية في استهداف خصومها الداخليين والخارجيين، ورسم صورة "الدولة القوية" ذات الأذرع الأخطبوطية الطويلة، القادرة على إسكات "معارضيها"، عبر كل الوسائل، بغض النظر عن درجة مشروعيتها من عدمها.
باختصار، قد تثبت هذه الأزمة عكس ما أراده من قتلوا خاشقجي؛ إذ أسفرت بصورة مباشرة عن المسّ الحقيقي بـ "السيادة السعودية"، التي تعرّضت لضغوط خارجية هائلة، ما اضطرها إلى اجتراح "عنتريات خطابية" تفيد بأن الرياض ستردُّ على أي عقوباتٍ اقتصاديةٍ محتملةٍ تفرضها أي دولة في ما يتعلق بقضية خاشقجي.
وبمقدار ما يرغب سيد البيت الأبيض في ابتزاز "البقرة السعودية وحلبها حتى آخر قطرة"، وتقديم "المصالح على القيم"، يبقى الدفاع عن حقوق خاشقجي، وغيره من المظلومين العرب، قضية إنسانية لن تموت.
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل