سِرّ الحذر تجاه احتجاجات الإيرانيين

06 يناير 2018
+ الخط -
يتعامل شطر كبير من دول أوروبا ومن الدول العربية والإسلامية بحذر مع موجة الاحتجاجات الايرانية (ويتم التعامل مع النظام الإيراني بما هو أبعد من الحذر: التحفظ). ومردّ ذلك الخشية من حمامات دمٍ لن تتوانى سلطات طهران عن ارتكابها، وقد تم إنشاء الحرس الثوري لهذا الغرض ولأغراض مماثلة، وتحوّل بلاد فارس إلى بؤرةٍ ملتهبة تدفع موجات من النازحين خارج الحدود، كما وقع في سورية، مع ظهور أجيال جديدة من متطرّفين إيرانيين. هذا على الرغم من أن النظام في طهران يقيم علاقات وطيدة مع دول في العالم، أقل من عدد أصابع اليدين. وبهذا، فإن النتائج الجانبية المحتملة هي مصدر القلق وباعثه، وليس مصير النظام الإيراني. وقد عبّر عن ذلك الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي أبدى خشيته من جنوح أميركا إلى التصعيد، مع العلم أن النظام في طهران متخصصٌ في نسبة أية احتجاجاتٍ إلى دفع خارجي، واستثمار أي موقفٍ سياسي خارجي، من أجل تشويه صورة الاحتجاجات، بل إن محتجين إيرانيين رفعوا عقيرتهم في شوارع طهران، قائلين إن ترامب يضرّنا بمواقفه، ولا نريد تأييده.. وعلى الرغم من اعتراف بعض أركان الحكم، مثل الرئيس حسن روحاني، بوجود أسباب داخلية، إلا أن أوساط المرشد والحرس الثوري لا تتحدث إلا عن "مؤامرة". وهي دعايةٌ كفيلةٌ بشحذ همم "حراس الثورة"، وبعض منسوبي المعاهد الذين جرى تسييرهم، ابتداء من الأربعاء الماضي، 3 يناير/ كانون الثاني الجاري.
بالنسبة لنظامٍ يضع تصدير ثورته، وبسط نفوذه في مقدمة أولوياته، ويمنح نفسه الحق في 
التدخل في شؤون دول مجاورة وغير مجاورة، ويستدخل الخارج، فإن هناك مخاوف، إذا ما تواصلت الاحتجاجات، أن يهرب النظام من أزمته إلى الأمام خارج الحدود. وأن يجلب مقاتلين من الخارج للتنكيل بالشعب، كما فعل بتجنيد مليشيات أفغانية وعراقية ضد السوريين. وبذلك، فإن فوضى الشرق الأوسط، سوف تكتسب حينها عنصرا جديدا يصبح معها نظام ولاية الفقيه في موقع الدفاع والهجوم.. غير أن الواضح أن شعب (شعوب) إيران قد قالت كلمتها في ما يخص التدخلات الخارجية لبناء إمبراطورية إسلامية، على حساب قوت الإيرانيين وأرواحهم. بعدما لمسوا أن هذا النزوع الإمبراطوري لا يؤدي سوى إلى البطالة والجوع وتكميم الأفواه، في بلد غني يتمتع بثرواتٍ طبيعية كبيرة. وهو ما كان جوهر انتقادات خارجية للسلوك الرسمي الإيراني. وبينما كان إشعال الحرائق في الخارج هو السياسة المفضلة لنظام هذا البلد، إذا بالحرائق تنتقل إلى عقر داره، على أيدي فقراء إيران الذين بدوا في استماتتهم وكأن لا شيء يمكن أن يخسروه، على الرغم من أن إتلاف ممتلكات عامة لا يمكن أن يلقى قبولاً في الخارج أو في الداخل (بنوك سلبت أموالهم ثم أعلنت إفلاسها من دون أن تمد الحكومة يد العون للضحايا).
وبهذا، تتبدّى صورة النظام وواقعه في أنظار العالم، أن بقاءه يمثل مشكلة، ومحاولات تغييره بالاحتجاجات الشعبية تنطوي أيضا على مشكلة. وهذا هو سر الحذر في التعامل مع النظام، ومع التطورات الجارية حالياً، فللنظام أذرع مليشياوية في الخارج، وله تحالف قوي مع روسيا وكوريا الشمالية، وله طموحات نووية، مع مواصلته تطوير صواريخ بعيدة المدى، وعسكرة سياسته الخارجية، كلما تسنّى له ذلك. علاوة على خشية أطراف أوروبية (فرنسية وألمانية خصوصا) من اضطرابات طويلة الأمد، تؤدي إلى ضياع فرص استثمارات هائلة في مجال الطاقة، تقدر بالمليارات. وهذه الاستثمارات من أهم أهداف زيارة وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، التي كانت مقرّرة في هذه الآونة لطهران، وأرجئت. وعليه، فإن محنة الإيرانيين المتضرّرين من نظامهم تتمثل، في وجه بارز لها، بتلك الامتدادات للنظام في الخارج وبنائه شبكة مصالح، وحسابات سياسية، حتى مع دولٍ لا تكنّ كثيراً من الود لهذا النظام، مثل غالبية الدول الأوروبية والعربية والإسلامية، التي تعرف مدى عمق عزلة هذا النظام عن شعبه، وخصوصا عن ملايين الفقراء منهم، وعن عموم الإصلاحيين، وعن الأقليات العرقية والدينية، كما هو حال الأكراد وعرب الأحواز.
علاوة على ذلك، تفادت القوى السياسية المعارضة في الداخل، حتى تاريخه، إعلان تأييدها 
مطالب المحتجّين في المجال الاقتصادي، وبما يتعلق بهيمنة الحرس الثوري على مقدّرات البلاد. ولأسباب لم تشرحها بعد هذه القوى التي يبدو أنها تراهن على الانتفاضة الشبابية والعفوية، وتتجنّب منح ذرائع للسلطة للتنكيل بها، في حال ظهورها علنا إلى جانب المحتجين، علماً أن حركة هذه القوى مقيدة قبل اندلاع الاحتجاجات. ومن المفارقات أن بعض أوساط الحكم اتهمت الرئيس السابق، محمود أحمدي نجاد، بأن تصريحاته ومواقفه كانت أحد أهم الأسباب وراء موجة الاحتجاجات، فيما اندلعت انتفاضة العام 2009 (الحركة الخضراء) احتجاجاً على ما اعتبره المحتجون تزويراً في الانتخابات الرئاسية لمصلحة نجاد حينها (اعترف لاحقاً بهذا التزوير لمصلحته!) وعلى حساب منافسه مير حسين موسوي آنذاك.
ويبقى أن موجة الاجتجاجات، أياً كان مآلها، فإنها كسرت الصمت الذي يغلف بلاد فارس، وبينما يزعم النظام أنه فريدٌ من نوعه، وأن المعارضة قاصرةٌ على وجود فئاتٍ من الخارج، تغذّيها جهات أجنبية، وأنه يتوفر على ديمقراطيته الخاصة (شأن الديمقراطية السيادية في روسيا!)، فقد أبدى المحتجون رأيهم بهذا النظام، ونعتوه بأنه ديكتاتوري. ويقينا لو أن المحتجين كانوا يتمتعون بقنواتٍ تيسر لهم فرصة التعبير عن آرائهم، لما خرجوا بهذه الصورة العنيفة، صورة من كانوا كاظمي الغيظ، وهو ما اعترف به الرئيس روحاني، وبانتسابهم لأجيال شابة، فهم لا يراهنون على عودة الماضي الذي يجهلونه، بل يتطلعون إلى المستقبل، إلى دولة طبيعية، يتم فيها الفصل بين السلطات، ولا تتمركز في أيدي عدد ضئيل من رجال الدين، يمزجون الدين بالسياسة وبنظام الحكم، ويعتبرون كل ممارساتهم السياسية معصومةً من الخطأ والزلل، وفوق النقاش وخارجه. وهو نهجٌ في الحكم أضيرت منه شعوب ودول في المنطقة، بعدما فوّض هذا النظام نفسه، وعبر أذرعه المليشاوية، مهمة تقرير مصير دول وشعوب أخرى، بالترغيب والتأليب، وبالعنف والتدليس.
دلالات