انتخابات الأندية ومعضلة البورجوازية المصرية

13 يناير 2018
+ الخط -
شهدت الفترة الماضية انتخاب الجمعيات العمومية في الأندية الرياضية والاجتماعية  المصرية  مجالس إدارة جديدة، وقد جرت الانتخابات مصحوبة بحالة غير مسبوقة من الصخب الدعائي والإعلامي، ملأت المجال العام، على الرغم من أنّ العملية الانتخابية لا تعني سوء أعضاء تلك الأندية، فهم الذين لهم حقّ التصويت.
تجاوزت الدعاية الانتخابية والحملات الدعائية للمرّشحين أسوار الأندية، لاسيّما الأندية الكبرى في العاصمة، إلى خارجها عبر ملصقات ولافتات في الشوارع، ولوحات إعلانية في الميادين، وتوزيع مطبوعات فاخرة، وتخصيص مساحات إعلانية في الفضائيات، فضلاً عن إصدارات إعلامية، تغلّبت فيها المساحة الإعلانية على المادة التحريرية، عبر الدعاية لفريق بعينه، ومؤتمرات في أفخم الفنادق، وقد حملت تلك الانتخابات دلالات كبيرة وعديدة تستحقّ التوّقف والتأمّل.
تكمن الدلالة الأولى في درجة الاهتمام الكبير إعلامياً وجماهيرياً بانتخابات الأندية الرياضية، والتي تشير إلى حالة الموات التي أصابت السياسة، بعد تأميم المجال السياسي بمصر ومصادرته كليا في السنوات الأخيرة، على النقيض من حالة الحِراك التي أعقبت ثورة 25 يناير، وشهدت طلباً كبيراً على السياسة، وقد انعكست حالة الموات على الأحزاب السياسية التي انكمش (بالأدقّ تلاشى) دورها، كما امتدّ الأمر إلى محاصرة مؤسسات المجتمع المدني (الجمعيات الأهلية والنقابات المهنية). وعليه، فقد تمدّدت انتخابات الأندية في الفراغ الناجم عن تأميم السياسة، ومصادرة المجال العام، فقد حلّت الأندية الرياضية محلّ الأحزاب السياسية، كتكوينات حاضنة للتفاعلات والتمايزات المجتمعية. ولم تظهر الثنائية القطبية الكروية (الأهلي والزمالك) في مصر بهذه الصورة الجماهيرية الزاعقة إلا بعد قيام نظام 23 يوليو 1952، عند الإجهاز على الحياة النيابية والدستورية وإلغاء الأحزاب السياسية.
تتمثل الدلالة الثانية في الكمّ المهول من الأموال التي أُنفِقَت في الحملات الدعائية، فقد بلغت 
التقديرات الإجمالية لها مليارا وربع المليار جنيه، وفق سعد شلبي، مستشار وزير الرياضة الأسبق، وهو كمّ بالغ الضخامة، يثير تساؤلات كثيرة بشأن العائد المُنتظَر من كل هذه التكلفة، من أجل الفوز بمقعد في مجلس إدارة نادٍ رياضي، والذي يُعدّ من صور العمل التطوّعي الذي لا يدرّ دخلاً على صاحبه، إلى جانب إقبال رجال أعمالٍ كثيرين على دخول المعترك الانتخابي في الأندية، وهو ما يعكس عملية "رسملة" واسعة للمجال الرياضي، باعتباره مجالا خصبا للاستثمار، وامتداد التوحّش النيوليبرالي  إلى ساحة الرياضة، الأمر الذي دفع مراقبين إلى سكّ مصطلح "المال الرياضي"، على غرار مصطلح "المال السياسي" الذي عرفته الساحة المصرية منذ نحو عقديْن، وصاحب دخول رجال أعمال عديدين إلى المجال السياسي، عبر ممارسة أدوار سياسية بشكل علني صريح.
يُعدّ عائد عضوية مجلس إدارة نادٍ كبير ليس قليلاً على الإطلاق، إذ يحققّ صاحبه مكاسب عديدة "غير مكتوبة"، فهو بمجرّد عضويته القيادية يصبح من أصحاب الوضع الاجتماعي المتميّز والمكانة الكبيرة في المجال العام. وتمثّل صفته الجديدة بوّابة دخوله إلى دائرة الضوء حيث يصير بعدها نجماً إعلامياً معروفاً للعامة من الذين يُشار إليهم بالبنان، وتهتمّ وسائل الإعلام المختلفة باستضافتهم ونشر تصريحاتهم، كما أنّ هذه العضوية (باعتراف مرّشح في نادٍ كبيرٍ) تمثّل بوّابة خلفية تمكّن صاحبها من نسج علاقات مع كبار المسؤولين وصغارهم داخل جهاز الدولة وخارجه في المؤسسات الخاصة، وهو ما يساعده على إنجاز مصالحه الشخصية والخاصة ومصالح النادي على حدّ سواء، كما يُمكن أن يكون صعود نجمه في المجال الرياضي مجرّد مرحلةٍ تمهّد الطريق لدخوله المجال السياسي لاحقا، اعتماداً على رصيده من الشهرة والنفوذ الذي يحققّه من مكاسب صفته الرياضية.
وكشفت انتخابات الأندية الرياضية عن جوانب إيجابية، أولها الإقبال التصويتي الكبير في مشهد اصطفاف الأعضاء في طوابير طويلة، للإدلاء بأصواتهم على اختلاف أعمارهم. وقد عكس هذا مدى تشوّق الناخبين إلى الممارسة الديمقراطية، وحرصهم على مزاولة حقّهم في التصويت لاختيار من يمثّلهم، طالما خالجهم شعور بالاطمئنان والثقة تجاه نزاهة العملية الانتخابية وشفافيتها، كما يعكس قناعتهم بجدوى المشاركة التصويتية، لشعورهم بأن أصواتهم هي العامل الحاسم في فوز هذا المرشّح أو ذاك.
فنّدت هذه الانتخابات القول إنّ المجتمع مازال قاصراً غير قادر على إدارة شؤونه بنفسه، وإنّه 
لم ينضج بعد للممارسة الديمقراطية، فقد كشفت انتخابات الأندية عن حيوية كبيرة لدى قطاع مجتمعي كبير، وقدرة فائقة لديه على التفاعل والمشاركة، وأثبتت أنّ المجتمع قادر على تنظيم أموره بصورة حضارية راقية، وانتخاب من يمثّله، ودفع تكلفة اختياره، واحترام ما تحمله النتائج أيّاً كانت، طالما جرت الانتخابات في أجواء من الشفافية.
ومثّلت انتخابات الأندية في مصر صورة من صور الممارسة الديمقراطية، بما شهدته من قيم التعددية، والتنافسية، والمشاركة الجماعية، وحملت رسالةً بليغةً مفادها أنّ المجتمع مازال حيّاً وقادراً على الحركة، وأنّ تمكينه من الحراك والتفاعل الذاتي عبر رفع القيود التي تُكبّله، وفتح مساحات الحركة أمامه، يعني تقويته وإطلاق قدراته للتعامل مع أزماته بعيداً عن قبضة الدولة ووصايتها.
تصلح انتخابات الأندية أساساً يمكن البناء عليه، فتراكم الممارسة الديمقراطية ورسوخ ثقافة المشاركة المجتمعية، يؤدي إلى زيادة رصيد الخبرات، ما يعني التمسّك بالإيجابيات وتلافي السلبيات. وبتوسيع الصورة، فإنّ من شأن هذه التفاعلات الذاتية امتصاص طاقات الاحتقان السلبية، وإغلاق النوافذ أمام الأفكار الراديكالية وممارسة العنف.
وتبقى نقطة مهمّة، أن أعضاء هذه الأندية ينتمون إلى طبقة اجتماعية واحدة، فرسوم عضوية الأندية الكبرى مبالغ مالية كبيرة، لا يقدر عليها سوى الشريحتين الوسطى والعليا من الطبقة الوسطى، أو ما يُعرف بالطبقة "البورجوازية". ومن دون الإغراق في تحليلات طبقية، فإن سلوك البورجوازية المصرية محيّرٌ إلى أبعد حدٍّ، فهو يتسم تاريخياً بصورة غير مفهومة من التناقض والفصل بين الخاص والعام فصلاً يصل إلى درجة الفصام (!). ففي حين تُقبل البورجوازية المصرية على الاشتباك مع الشأن العام، والمشاركة بفاعلية عندما يتعلّق الأمر بمصالحها، أو عندما تستشعر خطراً يهدّد مكاسبها، وينال من مساحتها الاجتماعية الخاصة، ويُعكِّر صفو تجانسها الطبقي، ويخصم من خصوصية مجتمعها البلاستيكي المُغلَق، تختفي من الساحة وتُحجِم عن المشاركة غالباً، عندما يتعلّق الأمر بالصراع السياسي والاجتماعي، والتدافع بين الفاعلين بشأن قضايا عامة تتعلّق بالحريات، أو الحصول على مكاسب عامة. وعليه، فإنّ أنانية البورجوازية ونزعتها الإذعانية تجاه الدولة أحد المعوّقات الأساسية في طريق التحوّل الديمقراطي في مصر. وأيّاً كان التقييم النهائي، فإنّ الاحتفاظ بمساحات للحركة، وأرضية مجتمعية بعيدة عن مطرقة "الدولنة" والموجة العاتية من عاصفة تأميم المجال العام، ومصادرته وإغلاقه، بكل أجزائه ومساحاته، يُعدّ مكسباً لا بأس به في هذه الفترة.