حزب الوفد وأزمة الليبراليين في مصر
شهد حزب الوفد المصري أزمة كبيرة في الأسبوع الماضي، على خلفيّة مقطع فيديو مُسرَّب من داخله، ظهر فيه ثلاثة أعضاء من المستوى القيادي يتفاوضون داخل مقرِّه الرئيس على تفاصيل بيع قطع أثريّة، إذ ذكرت وسائل إعلام مصريّة أنّ أحدهما مساعد رئيس الحزب، والثاني أحد أعضاء هيئته العليا. فجّر الفيديو حالةً من الجدل والاستياء الشديدَين في مواقع التواصل الاجتماعي، ما دفع رئيس الحزب إلى إصدار قرار بفتح تحقيقٍ عاجلٍ وفوريٍّ في واقعة الفيديو المُسرَّب. وعليه، وفي مساعي قيادة الحزب إلى احتواء آثار الأزمة، أصدرت لجنة التنظيم المركزيّة في الحزب قراراً بإجماع أعضائها بفصل العضوَين القياديَين من كل تشكيلات الحزب، كما قرّرت إبلاغ النيابة العامّة باتخاذ تدابيرها، وفقاً لتعبير المُتحدّث الرسمي باسم الحزب.
أصدر عددٌ من شيوخ "الوفد" (عمرو موسى، ومحمود أباظة، ومنير عبد النور) بياناً حمل هجوماً حادّاً على أوضاع الحزب، طالبوا فيه بضرورة تغيير كبير من أجل إنقاذ الحزب. وأشار البيان إلى ما يُنشر في مواقع التواصل الاجتماعي من سلبيّات مُخزِيَة، تتعدّى كلّ الحدود وتسيء إساءةً بالغةً إلى سُمعَة "الوفد"، أمّا المفارقة الطريفة فهي أنّ رئيس الحزب قد ردّ على ما ورد في البيان بقوله: "واقعة الفيديو تُعتبر فصلاً جديداً من فصول المؤامرة على شرعيّة رئيس الحزب" (!) تلك الواقعة المُخزِية تفتح الباب أمام التأمُّل في أحوال الحياة الحزبيّة في مصر، سيّما الأحزاب المحسوبة على الليبراليين، إذ يقول الواقع النظري إنّ "الوفد" هو الحزب الليبرالي الأعرق بين الأحزاب المصريّة، بيْدَ أنّ الواقع العملي يسير في اتجاه آخر.
بداية، يتعيّن تأكيد أنّ كاتب هذه السطور ليس عضواً في حزب الوفد، ولم يكن يوماً في أيّ حزب آخر، بل لم يدخل أيَّ مقرٍّ لأيّ حزب، لكنّه يذكر جيّداً ما كان يقرأه في صباه، وفي بواكير الشباب، في صحيفة الوفد، في عصرها الذهبي، نهاية الثمانينيّات ومطلع التسعينيّات، إبّان عهد الراحلَيْن مصطفى شردي وجمال بدوي، والمعارك الطاحنة التي خاضتها الصحيفة مع رموز الفساد والاستبداد مثل معركتها مع عبد الخالق المحجوب، شقيق رئيس مجلس الشعب الأسبق رفعت المحجوب، وحملتها الهادرة على وزير الداخليّة الأسبق زكي بدر، التي خلعت خلالها عليه لقب "أبو الزّيك"، وقد أفضت في نهايتها إلى إطاحته. بيْدَ أنّ أداء الصحيفة أخذ يتراجع شيئاً فشيئاً بالتزامن مع التراجع الكبير للأداء السياسي للحزب، وحضوره في الفضاء السياسي المصري، خاصّة بعد رحيل الرمز الوطني الليبرالي فؤاد سراج الدين باشا (آخر باشوات مصر)، في أغسطس/ آب عام 2000، وهو الذي أعاد "الوفد" إلى المشهد السياسي المصري في نهاية السبعينيّات، بعد غياب دام ربع قرن جرت فيه مياه كثيرة في نهر المشهدَين السياسي والاجتماعي بمصر، بعدما دخلت السياسة المصريّة عصر التنظيم الدولتي الشمولي الأوحد، بعد انقلاب 23 يوليو (1952)، وإجهاز العساكر على الحياة السياسيّة، والنيابيّة، والدستوريّة، بعدما أصدرت الشموليّة العسكريتاريّة ذلك القرار الجائر بإلغاء الأحزاب السياسيّة من الأصل في يناير/كانون الثاني 1953، فلم يعد في الساحة سوى التنظيم الشمولي الأوحد، الذي مثّل الدولة في مقابل جماعة الإخوان المسلمين.
سلبيّات مُخزِيَة، تتعدّى كلّ الحدود وتسيء إساءةً بالغةً إلى سُمعَة "الوفد"
عاد "الوفد" مع سراج الدين، بعدما ظهرت أجيال عدّة لم تسمع مجرّد السماع باسم هذا الحزب، ولا تعرف مُطلقاً أسماء أولئك الزعماء الذين حظرت الآلة الإعلاميّة الناصريّة ذِكرَهم بأيّ صورة، حتّى لو في صفحة الوفيّات، ونعي الأموات، وظهرت أجيال حفظت "الميثاق" عن ظهر قلب (1962)، الذي أسهب في شرح أسباب فشل ثورة 1919، مُوجِّهاً انتقادتٍ حادَّةً لـ"الوفد"، مُؤكّداً فشل المُفكّرين في مصر بين الحربَين العالميتَين، والمقصود هو التبخيس، والتنقيص، والطعن الضمني والصريح، في منجزات الحِقبَة الليبراليّة الزاهية (1922 - 1952). وقد أشار نجيب محفوظ إلى آثار ذلك في الأجيال الجديدة، في روايته "يوم قُتِلَ الزعيم"، التي صدرت عام 1985، عندما قال على لسان أحد أبطالها: "حكى لهم الراوي المأجور حكاية زائفة كاذبة... يبدأ المُدرّس المغلوب على أمره درسه بالسؤال الخائن: لماذا فشلتْ ثورة 1919؟! يا أبناء الأبالسة، ألا توجد قطرة حياء؟ يا زبانية المعتقلات ويا عُبَّاد نيرون".
ثمّة مئويّات عدّة مثّلت محطَّات مفصليّة في تاريخ الحركة الوطنيّة المصريّة، وتاريخ مصر الحديث، حلّت تباعاً خلال السنوات الماضية وهي: مئويّة ثورة 1919، ومئويّة دستور 1923، ومئويّة أول انتخابات برلمانيّة 1924. وبكلّ أسف مرّت كلُّها مرور الكرام، ولم تحظَ بالاحتفاء اللائق بها، سيّما من الليبرالييّن (كأنّ تلك الأحداث لا تمثّل شيئاً لهم، ولا تمتّ لهم بأدنى صلة)، وحزب الوفد على وجه الخصوص، فمن المُفترَض أن علاقة وثيقة تربطه بتلك المحطّات المهمّة كلّها في تاريخ مصر الحديث، وهو أمرٌ يعكس ما وصل إليه حال الليبرالييّن في مصر، فقد مرّت تلك المئويّات بصمت شديد اتّشح بطابع التجاهل والإهانة، سوى مقال هنا أو فاعليّة هناك.
مأساة حزب الوفد جزء من مأساة الليبراليين في مصر، وفي مصر أفراد ليبراليّون ولا يوجد تيّارٌ ليبرالي بالمعنى المُتعارَف عليه
يكفي هنا إلقاء نظرة على احتفاليّة حزب الوفد بمئويّة ثورة 1919، التي اتّخذت طابعاً كرنفاليّاً خلا من أيّ ملمح رصين للحديث عن الثورة، التي دشّنت مفهوم الأمّة المصريّة، وأسسّت شرعيّة الدولة المصريّة، بعدما كانت ولايةً عثمانيّةً، والمفارقة الملهاويّة/المأساويّة أنّ المدعو توفيق عكاشة كان أحد حاضري تلك الاحتفاليّة (!). ولا يمكن هنا أن نغفل مشهد الانتخابات البرلمانيّة 2011، وما تمخّض عنه، إذ حصل "الوفد" على 39 مقعداً احتلّ بها المركز الثالث في البرلمان، تلاه تحالف الكتلة المصريّة، المكوّن من ثلاثة أحزاب، بفارق بسيط، بعدما حصل على 34 مقعداً. وتجدر الإشارة إلى أنّ تحالف "الكتلة" قاده حزب ليبرالي وليد، أسّسه ملياردير شهير معروف بتصريحاته المثيرة للجدل، التي غلب عليها طابع مُكايَدة خصومه الإسلامييّن، فجاء الحزب الوليد أشبه بذراع سياسية لإمبراطوريّته الماليّة، بيْدَ أنّ ذلك الحزب الوليد تمكّن من سحب البساط من تحت أقدام حزب الوفد العريق، الذي تحوّل أخيراً جناحاً من أجنحة السُلطة، من تلك المُعارَضة الكارتونيّة المُدجّنة المُستأنسة، التي تفاوض السُلطةَ على الفتات، وتقبل بما تُلقيه إليها، مبدّداً تراثه الليبرالي كلّه في الدفاع عن الديمقراطيّة، والوقوف في وجه الاستبداد والديكتاتوريّة، بنوعيْها الأوتوقراطيّة والعسكريتاريّة.
يحمل آخر مشهد خرج من حزب الوفد دلالات مؤسفة مأساويّة إلى أبعد مدى، فمأساة "الوفد" جزء من مأساة الليبراليين في مصر، الليبرالييّن وليس التيّار الليبرالي، ففي مصر يوجد أفراد ليبراليّون ولا يوجد تيّارٌ ليبرالي بالمعنى المُتعارَف عليه، والمشهد برمَّته يدعو شباب الليبراليين إلى القيام بمراجعات جذريّة للأخطاء السياسيّة، والأخلاقيّة، التي ارتكبها بعض المحسوبين زوراً على الليبراليين. المفارقة المؤلِمَة أنّ ذلك المشهد القميء، جرى تحت صورة كبيرة للزعيم الوطني سعد زغلول باشا، ولنا أن نسأل سؤالاً افتراضيّاً خياليّاً: ماذا لو خرج سعد زغلول باشا من قبره، أو مصطفى النحّاس باشا، أو أيٌّ من رفاقهم من تلك القامات الوطنية، من باشوات الليبراليّة الوطنيّة، وسمعوا ورأوا ذلك المشهد؟ تُرى كيف ستكون ردّات فعلهم؟... الجواب متروك لخيال القارئ.