عن "رأس المال" لبيكيتي

29 اغسطس 2017
+ الخط -
كانت سعادتي كبيرة حين حصلت على كتاب "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" لمؤلفه الفرنسي توماس بيكيتي بنسخته العربية، فقد سمعت عنه وقرأت مراجعات عنه شديدة الإعجاب به. والكتاب نتيجة جهد استمر خمس عشرة سنة، كما قال مؤلفه، راجع خلالها بشكل رئيس كمًا كبيرًا من السجلات الفرنسية والإنكليزية والألمانية والأميركية والسويدية حول الثروة والملكية والمواريث والدخل والضرائب بين 1770 و2012، كي يستنتج قوانين حركة رأس المال، فهو يعتقد أن تقييم الاتجاهات الرئيسة لا يمكن أن يتم إلاّ "في إطار نطاقات زمنية لا تقل عن ثلاثين إلى أربعين عاماً أو أطول من هذا".
يطرح بيكيتي السؤال الرئيس للكتاب: ما إذا كانت حركية رأس المال تؤدي إلى مزيد من تركز الثروة بحسب ماركس، أم أن هذه الحركية في المراحل المتأخرة تقود إلى لا مساواة أقل في القرن العشرين، بحسب سايمون كوزنتيس، حيث تقود القوى الموازنة للنمو والمنافسة والتقدم التكنولوجي في المراحل الأخيرة إلى لا مساواة أقل وانسجام أعظم بين الطبقات؟ وللإجابة على هذا السؤال، يتناول بيكيتي في كتابه موضوعات اللامساواة في الثروة والدخل، ومسيرتها خلال أكثر من قرنين في البلدان أعلاه، ويتناول عناوين رئيسة عن الثروة وملكيتها واللامساواة في توزيعها والتوريث، والدخل وتوزيعه. ويناقش بيكيتي بالتفصيل تاريخ نسبة الثروة، أي رأس المال، إلى الدخل، وقد سمى هذه النسبة "القانون الأساسي للرأسمالية"، ووصل إلى أن النسبة كانت بحدود خمس مرات وسطياً قبل 1914. ثم بسبب ما يسميها صدمات 1914 – 1945 تراجعت إلى مرتين أو ثلاث، لكنها بعد 1980 عادت إلى مسيرتها السابقة، ويتوقع أن تستمر في مسيرتها لتبلغ نحو سبع مرات في العقود المقبلة. ومن نافل القول إن هذا ليس "قانون الرأسمالية الأساسي"، فهذه النسبة والعلاقة موجودة في أي نظام كان أو سيأتي، بينما لقوانين الرأسمالية علاقات بنظم الملكية ونظم الإنتاج ونظم الأسواق والتداول.. إلخ.

لقياس التفاوت في توزيع الدخل والثروة، يقسم بيكيتي المجتمع إلى ثلاث فئات، العشرية العليا، وال 40 في المئة الوسطى، وال 50 في المئة الدنيا، ويقدر حصة كل منها من الثروة أو من الأجور والرواتب على مدى تاريخي طويل. ويهتم بحساب حصة ال 1% وحصة ال 1 في الألف الأغنى. وتقسيم النسب هذا أمر استنسابي، افترضه بيكيتي نفسه، وهو يعكس استنتاجاته في جداول رقمية، وفي أشكال بيانية.
يستنتج بيكيتي، في بحثه التاريخي، أنه في كل المجتمعات المعروفة في كل الأزمنة، تملك الشريحة العشرية الأعلى في سلم الثروة أغلب ما يمكن أن يُمْلَكْ (عموماً أكثر من 60% من إجمالي الثروة، وأحياناً ما يصل إلى 90%)، أما شريحة ال 40% في المنتصف فتملك ما بين 5 و35% من كل الثروة، بينما لا تملك شريحة ال 50% الأفقر من السكان أي شيء فعلياً، أو ما يزيد قليلا عن ال 5% من إجمالي الثروة.
يعطي بيكيتي أهمية كبيرة للتفاوت في توزيع الدخل من العمل (الأجور والرواتب والتعويضات)، وهو يحمّل مسؤولية ارتفاع اللامساواة بعد 1980 بنسبة 70% لارتفاع اللامساواة في الأجور، وخصوصا ظاهرة ارتفاع أجور المديرين، إلى حد أنه يرى "أن الدول المتقدمة تحولت من مجتمع لأصحاب الريع إلى مجتمع للمديرين". ويقول استنتاجه هذا إن التناقض يتحول إلى داخل معسكر الأجور، أي بين المشتغلين أنفسهم، بدلًا من أن يكون الصراع بين أصحاب الأجور وأصحاب رأس المال. ولسنا في حاجة لمحاججةٍ، لنبين خطأ هذا الاستنتاج. ولكن يكفي أن نذكر من يحصل على رواتب خيالية هم عدد قليل جداً جداً لا يشكل نسبةً تذكر من كتلة الأجور والرواتب، أما تفاوتات الأجور المعتادة فتبقى في معظم البلدان بنسبة واحد إلى عشرة، أي أن الفرق بين الحدين، الأدنى والأعلى، هو بحدود عشر مرات، وتبنى الفروق على أساس التأهيل والخبرة والقدم في العمل، بينما الفروق في الثروة والدخل بين الثري وصاحب الأجر تبلغ عشرات ومئات وآلاف وملايين المرات، بل وأكثر بالنسبة لكبار الأغنياء، وهذا هو التفاوت الذي يستحق الإضاءة عليه، وبحثه في واقع المجتمع الرأسمالي العالمي اليوم.
ويتوقع بيكيتي أن يكون القرن الحادي والعشرون أكثر تفاوتًا من سابقه، ويبشرنا "بأننا سنكون واهمين، لو تخيلنا أنه يوجد في الهيكل الحديث للنمو، أو في قوانين اقتصاد السوق قوى تَقَارُبْ تؤدي بشكل طبيعي إلى تخفيض اللامساواة في الثروة، أو إلى استقرار مفعم بالانسجام". أي إنه يرى أن اللامساواة قدر لا مهرب منه، بما يعني أن كل مشروعات البشر وطموحاتهم لإلغاء التفاوت الكبير في الثروة محاولات عبثية، وكل ما يستطيعه البشر هو التخفيف منه. ويناقش كيفية ضبط رأس المال وضبط التفاوت واللامساواة الذي يعتبره خطرًا على قيم الديمقراطية ويتناقض مع قيم "الدولة الاجتماعية". ويرى أن "الأمر يتطلب اختراع أدوات جديدة تسمح باستعادة لجام الرأسمالية المالية التي انفلت عقالها"، لكن بيكيني لا يقدم سوى شذرات من تصور مشوش، يتوزع في أكثر من فصل في كتابه، ومن دون أن يأتي بجديد، ويمكن اختصار ما قدمه بفكرتين قديمتين هما: الحفاظ على "الدولة الاجتماعية"، ويقصد نموذجها الأوروبي. وهنا كرّر أفكارًا قديمةً عن أهمية دور "الدولة الاجتماعية"، والإنفاق على التعليم والصحة وضمان التقاعد. ضريبة تصاعدية منخفضة على رأس المال الفردي، تتكامل مع الضرائب المفروضة حالياً، بحيث يتحقق توازن اقتصادي وسياسي، يمنع الانفجار الذي يحرّض عليه التمركز المتطرف للثروة. ويرى أن الضريبة التصاعدية على الثروات الأكبر عالميًا هي الطريقة الوحيدة للتحكّم الديمقراطي باتساع اللامساواة المتفجرة، وتسمح للصالح العالم أن يستعيد السيطرة على الرأسمالية.
ما يضيفه بيكيتي لا يزيد عن تكرارٍ مع إضافات صغيرة لموضوع كبير، تم الخوض فيه كثيرًا، ولن تكون الضريبة الإضافية التي يقترحها على الثروات كافيةً للسيطرة على الرأسمالية، ومنع الوقوع في دوامة اللامساواة، فالرأسمالية ستقاوم فرض هذه الضريبة، بل هي استطاعت، خصوصا بعد العام 1980، أن تنقل جزءًا كبيرًا من العبء الضريبي من الأرباح إلى كاهل المستهلكين، ثم إن السيطرة الرأسمالية سياسية واجتماعية وثقافية ونفسية، إضافة إلى السيطرة الاقتصادية. ولا يقترب بيكيتي من هذه الجوانب، إذ يقدم استنتاجاته باعتبارها حتمية تاريخية، من دون تحليل نظري للسياقات التاريخية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السابقة، وهو يبحث في ماضي اللامساواة لاستنباط مستقبلها الذي لن يختلف عن ماضيها، بحسب استنتاجاته، بغض النظر عن أي تطور تكنولوجي، أو صراعات اجتماعية، ويقدم رؤيته حتى سنة 2100.
يفتقر عمل بيكيتي إلى تناول جوانب أساسية بشأن رأس المال وصراعات تشكله وأدواره السياسية والاجتماعية في الأمس واليوم، فلم يحلل العوامل التي تجعل ميزان التفاوت يميل إلى طرف رأس المال أو إلى طرف العمل، وهي الأساس الأهم في اللامساواة. ولا يتطرّق للصراع الاجتماعي والطبقي بمجمله، ويهمل الدور الضاغط الذي لعبه صعود أحزاب الديمقراطية الاجتماعية وصعود معسكر اشتراكي "بديل للرأسمالية"، ونمو أحزاب شيوعية قوية وحركة عمالية قوية في الدول الرأسمالية، ما أجبر الرأسمالية على التراجع وجعل
اللامساواة تتقلص. وعندما ضعفت هذه القوى تمدّد الرأسمال، كما لم يحلل حركة رأس المال على المستوى الوطني، وتمدده اليوم عبر العالم والعوامل التي تتحكّم به وتحكمه، ولم يتناول أسواق رأس المال العالمية، ولا قطاعات توظيفه وحركته العالمية، وهنا اختلافات جوهرية عن الماضي. ولم يحلل الطابع الريعي والمضارب الذي نما بعد 1980 على حساب القطاعات المنتجة، وهي من سماته المعاصرة، ولم يحلل مجمل السياسات الانفتاحية في حركة السلع والبضائع والخدمات ورؤوس الأموال وظاهرة انتقال الاستثمارات والوظائف ومستقبلها، وهي غير مسبوقة. كما لم يتناول اللاعبين الجدد في القرن الحادي والعشرين، وخصوصا الصين والهند، بينما اقتصرت أبحاثه على دول غنية في أوروبا الغربية، ليخرج باستنتاجات يعمّمها على مستقبل العالم كله حتى سنة 2100.
طرح بيكيتي أسئلة كبيرة، تركها من دون بحث أو تحليل أو أجوبة، مثل: حالة اللامساواة القصوى في الثروة: هل هي شرط الحضارة في مجتمع فقير؟ وما إذا كان من المبرّر والمفيد للمجتمع ككل أن يحصل حائزو رأس المال على دخل مقابل حيازتهم ملكيات من دون أن يبذلوا أي عمل جديد. كما طرح فكرة البحث عن "أنماط جديدة ومبتكرة للتنظيم وللملكية أكثر فأكثر، ولكنه لا يقدم أي اجتهادٍ أو تصور لهذه الأشكال الجديدة، كما لم يقدم أي إجاباتٍ لأسئلته الجوهرية.
بقدر غنى عمل بيكيتي الرقمي، بقدر فقره في تحليل الواقع، "غنى رقمي وفقر نظري". وبقدر ما كانت توقعاتي من الكتاب كبيرة، كانت خيبتي مثلها. وربما لا يعود اللوم في هذا على بيكيتي بأن أتوقع منه ما لم يقصد بحثه، فهو يقول عن عمله، في مقابلة مع موقع مدى المصري، "أعتقد أن كتابي أقرب إلى كتب التاريخ منه إلى كتب الاقتصاد". ولكن توقعاتي المرتفعة جاءت بسبب الاحتفاء الكبير بالكتاب، وخصوصا في الأوساط العربية، حتى إن بعضهم كتب إنه "بديل رأسمال ماركس".