12 نوفمبر 2024
غزة.. من التقصير بحقها إلى التنافس عليها
على مدى نحو سبعين سنة من تشكّل ما بات يعرف باسم قطاع غزة، لم يشهد ذلك الشريط الساحلي الضيق في أقصى جنوب فلسطين، الاهتمام الذي تستحقه هذه الرقعة المكتظة بالسكان اللاجئين في معظمهم، ولم يتم التعامل معه من جانب السلطات المتعاقبة على إدارته منذ عام النكبة 1948 إلا باعتباره برميل بارود متفجر، أو قل مشكلة أمنية مؤرقة، يجدر بالحكام العسكريين، على اختلاف راياتهم، إحكام القبضة عليه، والعمل على سحب فتيله بانتظام، واحتواء كل شرارةٍ قد تتطاير منه باتجاه محيط مجاور قابل للاشتعال.
ينطبق هذا التشخيص التاريخي، بحذافيره الكاملة، على الإدارة المصرية لقطاع غزة منذ عام النكبة إلى عام "النكسة"، وتنطق به سنوات الاحتلال الإسرائيلي المديدة بكل بلاغة ممكنة، حتى إن إسحق رابين تمنى له ذات يوم الغرق في البحر، ولم تشذّ عن هذا التشخيص سوى فترة الحكم الانتقالي المرحلي إثر اتفاق أوسلو، وفي زمن الرئيس الراحل ياسر عرفات تحديداً، أي حتى عام 2004، ليعود القطاع بعد ذلك، لا سيما بعد أن سيطرت عليه حركة حماس، إلى سيرته الأولى، أرضاً معزولة، وسكاناً متروكين إلى قدرهم السياسي المجهول، وسلطة محاصرة براً وبحراً وجواً.
بعد نحو عشر سنوات من حكم "حماس"، كانت فيه أوضاع القطاع المحاصر تتهافت من سيئ إلى أسوأ، وتتوالى عليه النائبات، بما في ذلك الاعتداءات الإسرائيلية المتفرقة، إلى جانب ثلاث حروب مدمرة، وبعد أن أصبحت الحياة فيه لا تشبه الحياة، وتحولت مساحته البالغة 365 كيلومتراً إلى سجن واسع مقام في الهواء الطلق، أصبح هذا القطاع الفائض بالبأس والبؤس، فجأة ومن دون إنذار مسبق، محل اهتماماتٍ إقليمية لا سابق لها، وموضع تنافس بين دولٍ عربية، بعضها خليجية، على نحو ما سيلي بيانه فيما بعد.
وهكذا ارتفعت القيمة السياسية لقطاع غزة في الأسابيع القليلة الماضية، على نحو أعلى من
قيمته الاستراتيجية، كجزء من أرض فلسطين خالٍ، وحده، من المستوطنين والاستيطان، وأصبحت هذه البقعة الخارجة حتى عن دائرة اهتمامات اللاعبين التقليديين في الجوار، نقطة جذب لهم ولغيرهم من لاعبين جدد في المحيط الأوسع، دخلوا على الخط من دون تردد، الأمر الذي يشير إلى أن غزة المتروكة لمصائرها الصعبة قد غدت جائزة ثمينة تستحق البذل بسخاء، من أجل الفوز بها على رؤوس الأشهاد.
وفيما كان حكم حماس يعاني الأمرّين، جرّاء تدهور الأوضاع المعيشية للناس، ويتعرّض لمزيد من التهديدات، ومن العقوبات المالية خصوصاً، وتتضاءل الخيارات المتاحة أمامه لمجرد البقاء والاستمرار، هبّت على حين غرة نسائم مشبعة بهواء عليل، واعدة بتحسين إمدادات الكهرباء، وفتح معبر رفح أياماً أطول من قبل، وربما إقامة محطة لتحلية المياه، وغير ذلك من الإجراءات المخففة لواقع ينذر بجعل القطاع أرضاً غير صالحة للحياة البشرية في عام 2020، وفق تقارير وكالات الأمم المتحدة.
ولما كانت المطاعم لا تقدم وجبات مجانية، وإن لكل شيء سعره في عوالم المال والسياسة والأعمال، فقد كان على قيادة "حماس" التي باتت تقيم في قطاع غزة منذ آخر انتخابات لها أوائل هذا العام، فقد كان عليها أن تجري مقارباتٍ جديدة لمأزقها الشديد، وأن تبدي استعدادها الضمني لدفع ثمن ما يُعرض عليهما من طعام، في صورة استدارةٍ سياسيةٍ ملموسة، تنتقل في سياقها من تحالفاتٍ كلاسيكيةٍ قديمة، فقد بعضها أهميته بالكامل، مثل التحالف مع إيران، وبعضها الآخر لم يكن مجزياً مثل تركيا، فيما بعضها الثالث يصعب التفريط به تماماً، والتنكّر لجميله الطويل، ونعني به قطر في المقامين، الأول والأخير.
وكما هو معلوم، بدأت العروض الاستهلالية المقدمة للسلطة القائمة بالأمر الواقع في غزة، عشية الأزمة الخليجية القائمة، في صورة وعودٍ غامضة حملها معه القيادي المفصول من حركة فتح، النائب محمد دحلان، أساسها تخفيض حدة الحصار السياسي المضروب على "حماس"، وتقديم بعض التسهيلات، بما في ذلك توفير الوقود اللازم لتشغيل محطة الكهرباء المتوقفة عن العمل، وتدبير الأموال الخاصة بالمصالحة المجتمعية، في مقابل تأمين حضور علني للتيار الذي يقوده دحلان في القطاع، وهو ما فهم، بشكل خاطئ، على أن هذا التحالف الهجين مصممٌ لإضعاف مكانة فتح والرئيس الفلسطيني محمود عباس.
غير أنه بعد احتدام الأزمة الخليجية، اتضح أن عروض محمد دحلان الأولية كانت صادرة
أساساً عن كل من مصر ودولة الإمارات، الراغبتين في إخراج قطاع غزة من دائرة "النفوذ القطري"، الأولى من خلال بيع الوقود الصناعي والوعد بفتح معبر رفح لاحقاً، والثانية عبر توفير الأموال البديلة للمساعدات القطرية السخية، تبدأ على شكل مخصصات المصالحة المجتمعية، ولا تنتهي عند إقامة محطة لتوليد الكهرباء وأخرى لتحلية المياه، وربما تمويل إقامة ميناء صناعي داخل بحر غزة، بترتيباتٍ مسبقة مع إسرائيل التي سبق لها أن تحدثت طويلاً عن جزيرة صغيرة تحت السيطرة الأمنية المشتركة مع الأوروبيين وغيرهم.
وهكذا ارتفعت قيمة قطاع غزة لاعتباراتٍ تكتيكيةٍ متصلة بمستجدّات الخلافات العربية حصراً، وتعزّزت مكانة القطاع المحاصر، لأول مرة في تاريخه الحافل بالترك والنسيان والإهمال، أقله على مستوى الوعود والآمال، لسلطة حكمٍ خسرت تحالفاتها السابقة، وضاقت خياراتها الضئيلة أصلاً، وبدت أقرب من أي وقت سابق على حافة الانهيار، الأمر الذي راحت الحركة المأزومة تتحاشاه بكل السبل الممكنة، بما في ذلك إقامة منطقة عازلة على طول حدود القطاع مع مصر، وإقفال ما تبقى من أنفاق، وغير ذلك من تعهداتٍ أمنية، كانت تلحّ عليها أجهزة المخابرات المصرية، الموكل إليها وحدها التعامل مع "حماس".
إزاء ما تقدّم، يمكن القول إن هذا الإقبال المفاجئ على غزة هو من مظاهر الانقسامات المتوالية في الحالة العربية، وليس تعبيراً أصيلاً عن تحولاتٍ صحية في المناخ العربي العام، وهو ما يمكن أن يضيف مزيداً من الحيرة والارتباك لحركة حماس التي تدرك جيداً، وهي تولي جل اهتمامها للبقاء في سدّة حكم القطاع بكل ثمن، إن كلفة هذا الاحتضان، المثير في حد ذاته، سوف تكون باهظة جداً، وربما مؤقتة، لا سيما أنها جربت من قبل فداحة نقل البندقية من كتفٍ إلى كتفٍ آخر، ومن عاصمة إلى أخرى، ولم تقبض لقاء ذلك إلا مزيداً من التراجع والخسارات، خصوصاً أن حليفها القطري مجرّب وموثوق، وأن التضحية به لصالح منافسيه قد تكون ضرباً من العبث الشديد.
ينطبق هذا التشخيص التاريخي، بحذافيره الكاملة، على الإدارة المصرية لقطاع غزة منذ عام النكبة إلى عام "النكسة"، وتنطق به سنوات الاحتلال الإسرائيلي المديدة بكل بلاغة ممكنة، حتى إن إسحق رابين تمنى له ذات يوم الغرق في البحر، ولم تشذّ عن هذا التشخيص سوى فترة الحكم الانتقالي المرحلي إثر اتفاق أوسلو، وفي زمن الرئيس الراحل ياسر عرفات تحديداً، أي حتى عام 2004، ليعود القطاع بعد ذلك، لا سيما بعد أن سيطرت عليه حركة حماس، إلى سيرته الأولى، أرضاً معزولة، وسكاناً متروكين إلى قدرهم السياسي المجهول، وسلطة محاصرة براً وبحراً وجواً.
بعد نحو عشر سنوات من حكم "حماس"، كانت فيه أوضاع القطاع المحاصر تتهافت من سيئ إلى أسوأ، وتتوالى عليه النائبات، بما في ذلك الاعتداءات الإسرائيلية المتفرقة، إلى جانب ثلاث حروب مدمرة، وبعد أن أصبحت الحياة فيه لا تشبه الحياة، وتحولت مساحته البالغة 365 كيلومتراً إلى سجن واسع مقام في الهواء الطلق، أصبح هذا القطاع الفائض بالبأس والبؤس، فجأة ومن دون إنذار مسبق، محل اهتماماتٍ إقليمية لا سابق لها، وموضع تنافس بين دولٍ عربية، بعضها خليجية، على نحو ما سيلي بيانه فيما بعد.
وهكذا ارتفعت القيمة السياسية لقطاع غزة في الأسابيع القليلة الماضية، على نحو أعلى من
وفيما كان حكم حماس يعاني الأمرّين، جرّاء تدهور الأوضاع المعيشية للناس، ويتعرّض لمزيد من التهديدات، ومن العقوبات المالية خصوصاً، وتتضاءل الخيارات المتاحة أمامه لمجرد البقاء والاستمرار، هبّت على حين غرة نسائم مشبعة بهواء عليل، واعدة بتحسين إمدادات الكهرباء، وفتح معبر رفح أياماً أطول من قبل، وربما إقامة محطة لتحلية المياه، وغير ذلك من الإجراءات المخففة لواقع ينذر بجعل القطاع أرضاً غير صالحة للحياة البشرية في عام 2020، وفق تقارير وكالات الأمم المتحدة.
ولما كانت المطاعم لا تقدم وجبات مجانية، وإن لكل شيء سعره في عوالم المال والسياسة والأعمال، فقد كان على قيادة "حماس" التي باتت تقيم في قطاع غزة منذ آخر انتخابات لها أوائل هذا العام، فقد كان عليها أن تجري مقارباتٍ جديدة لمأزقها الشديد، وأن تبدي استعدادها الضمني لدفع ثمن ما يُعرض عليهما من طعام، في صورة استدارةٍ سياسيةٍ ملموسة، تنتقل في سياقها من تحالفاتٍ كلاسيكيةٍ قديمة، فقد بعضها أهميته بالكامل، مثل التحالف مع إيران، وبعضها الآخر لم يكن مجزياً مثل تركيا، فيما بعضها الثالث يصعب التفريط به تماماً، والتنكّر لجميله الطويل، ونعني به قطر في المقامين، الأول والأخير.
وكما هو معلوم، بدأت العروض الاستهلالية المقدمة للسلطة القائمة بالأمر الواقع في غزة، عشية الأزمة الخليجية القائمة، في صورة وعودٍ غامضة حملها معه القيادي المفصول من حركة فتح، النائب محمد دحلان، أساسها تخفيض حدة الحصار السياسي المضروب على "حماس"، وتقديم بعض التسهيلات، بما في ذلك توفير الوقود اللازم لتشغيل محطة الكهرباء المتوقفة عن العمل، وتدبير الأموال الخاصة بالمصالحة المجتمعية، في مقابل تأمين حضور علني للتيار الذي يقوده دحلان في القطاع، وهو ما فهم، بشكل خاطئ، على أن هذا التحالف الهجين مصممٌ لإضعاف مكانة فتح والرئيس الفلسطيني محمود عباس.
غير أنه بعد احتدام الأزمة الخليجية، اتضح أن عروض محمد دحلان الأولية كانت صادرة
وهكذا ارتفعت قيمة قطاع غزة لاعتباراتٍ تكتيكيةٍ متصلة بمستجدّات الخلافات العربية حصراً، وتعزّزت مكانة القطاع المحاصر، لأول مرة في تاريخه الحافل بالترك والنسيان والإهمال، أقله على مستوى الوعود والآمال، لسلطة حكمٍ خسرت تحالفاتها السابقة، وضاقت خياراتها الضئيلة أصلاً، وبدت أقرب من أي وقت سابق على حافة الانهيار، الأمر الذي راحت الحركة المأزومة تتحاشاه بكل السبل الممكنة، بما في ذلك إقامة منطقة عازلة على طول حدود القطاع مع مصر، وإقفال ما تبقى من أنفاق، وغير ذلك من تعهداتٍ أمنية، كانت تلحّ عليها أجهزة المخابرات المصرية، الموكل إليها وحدها التعامل مع "حماس".
إزاء ما تقدّم، يمكن القول إن هذا الإقبال المفاجئ على غزة هو من مظاهر الانقسامات المتوالية في الحالة العربية، وليس تعبيراً أصيلاً عن تحولاتٍ صحية في المناخ العربي العام، وهو ما يمكن أن يضيف مزيداً من الحيرة والارتباك لحركة حماس التي تدرك جيداً، وهي تولي جل اهتمامها للبقاء في سدّة حكم القطاع بكل ثمن، إن كلفة هذا الاحتضان، المثير في حد ذاته، سوف تكون باهظة جداً، وربما مؤقتة، لا سيما أنها جربت من قبل فداحة نقل البندقية من كتفٍ إلى كتفٍ آخر، ومن عاصمة إلى أخرى، ولم تقبض لقاء ذلك إلا مزيداً من التراجع والخسارات، خصوصاً أن حليفها القطري مجرّب وموثوق، وأن التضحية به لصالح منافسيه قد تكون ضرباً من العبث الشديد.
دلالات
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024