مصر قبل الكارثة

19 يونيو 2017
+ الخط -
كشفت أزمة جزيرتي تيران وصنافير عن أزمة أعمق تجتاح الدولة المصرية، لها تداعياتها الإقليمية على المستوي الاستراتيجي، والأمن القومي المصري، فبتسليم الجزيرتين ستكون مصر قد فقدت ممرا حيويا هو ممر تيران الإقليمي، والذي سيتحول ممراً دولياً، تفقد مصر فيه السيطرة والتحكم، ويهدّد أيضا أمن شبه جزيرة سيناء التي خاضت من أجلها الحروب، لتقوم بتحريرها. وستكون أخطار التنازل عن "تيران" و"صنافير" عظيمة مستقبلا، بل ستهدد كيان الدولة وشرعية وجودها والجيش معا. والأخطار الخارجية عديدة، وهي تستوي مع أسباب التنازل، والتي تهدف إلى إقامة حلف سني بقيادة السعودية يشمل إسرائيل، لمواجهة الحلف الإيراني.
وكشفت الأزمة، ولأول مرة في التاريخ المصري، عن أن ثمّة حكومةً تفرّط في أرضها بموافقة جيش الدولة. ولا تقل الأخطار الداخلية عن الأخطار الخارجية، فللطريقة التي تم التعامل بها لتمرير اتفاقية تسليم الجزيرتين للسعودية داخل البرلمان دلالات خطيرة، وإن غابت عن الذكر في المشهد، لكن لها من القوة ما يؤكد على أننا في لحظات ما قبل الكارثة.
أولى الدلالات أنه أصبح هناك تلاشيا حقيقيا لمفهوم الدولة، فما يوجد في مصر اليوم ليس دولة (كهيكل سياسي دستوري قيمي يقف فوق الجميع، ويضبط العلاقات بين المؤسسات المختلفة والتي تحتكم إليه). أصبحت غير موجودة. ما يوجد في مصر الآن مجموعة من التحالفات بين المؤسسات، لتقوم بعملية مساندة لنفسها، والإبقاء على تحالفاتها الداخلية، لتمنع أي أحد من أن يقترب منها أو ينافسها، والاقتراب من مصالحها الاقتصادية، ناهيك عن انعدام الرؤية التي قد تستند إليها. فشلت هذه الدولة حتى في أن تكون ديكتاتورية شمولية سلطوية، تستند على الحزب الحاكم الواحد الذي يحتكم إليه الجميع، ليقوم بعملية الموازنة بين المؤسسات، كما في الأنظمة الشيوعية السلطوية مثلا. وهذا وضع جديد على الدولة المصرية لم تعرفه من قبل. ويؤكد هذا التحول أن الأزمة أصبحت أعمق مما كنا نتخيل، وأن الانفجار المجتمعي يقترب من لحظاته الأخيرة.
ثانيا: تجفيف المنابع السياسية وانتهاج سياسة الأرض المحروقة التي يتبعها الائتلاف الحاكم المكون من الجيش والمؤسسات الأمنية إلى جانب مؤسسات أخرى، بالتوازي مع عملية إبادة ممنهجة للكيانات السياسية المختلفة، باعتقال أعضاء الكيانات السياسية الشرعية، ومحاصرة
العمال وحقوقهم وحصار للإعلام وغلق مواقع إلكترونية صحافية ومحاكمات عسكرية وإعدامات بالجملة تطاول الجميع، وهو ما يعني القضاء على الديناميكية والروح السياسية التي تحرك العملية السياسية في أي دولة. ستجعل تلك المسألة الأزمة تتفاقم أكثر، لأنه في النهاية لن يبقى شيء سوى هذا الائتلاف الحاكم، ما يعني القضاء على فرص الانتقال السياسي السلمي في المستقبل، وفتح الباب أمام العمليات الإرهابية، والقتال العنيف بين المجموعات المختلفة، وتحويلها إلى ما يشبه عمليات الاقتتال الداخلي، أو إذا جاز التعبير (الحرب الأهلية).
لم يقم الائتلاف الحاكم الآن بإبادة التيارات السياسية فقط، بل امتد، أيضا، ليشمل الكيانات الأخرى. فلم يعد هناك مثلا حليف طبقي، أو حتى من كبار رجال المصالح أو الطبقة الوسطى، والذي قد تكون له فائدة مستقبلا في عملية التحول السياسي على طريقة أميركا اللاتينية، ففي اللحظة التي قرر فيها الجيش في كل من تشيلي والبرازيل الخروج من السلطة، كان لديه الحليف الذي يسلمه السلطة، ففي تشيلي كان كبار رجال الأعمال، وفي البرازيل كانت الأحزاب السياسية، وبالتالي قام بالتفاوض معهم فترة معينة لتسليم السلطة بشكل مدروس وممنهج. الوضع في مصر كارثي ومختلف، ففي السنوات المقبلة، مثلا، إذا ما أراد الائتلاف الحاكم، بزعامة الجيش، أن يسلم السلطة أو الخروج منها (أسباب الخروج قد تكون ذاتية من داخل المؤسسة أو من خارجها) فالأزمة حينها ستكون: إلى من سيسلم السلطة؟ من هم النظراء المدنيون الذين قد يسعي إلى تسلميهم؟ ستكون الإجابة صعبة، لأن ما يفعله الآن عملية إبادة وسحق لكل ما هو مدني.
الوضع الاقتصادي والسياسي في مأزق، والدولة وحدودها التاريخية وأمنها الاستراتيجي وتماسك أراضيها ووحدة هذه الأرض وأمنها الداخلي في خطر حقيقي. ناهيك عن الانقسام الداخلي الذي عصف بالمجتمع، والذي تأسس على الدماء، والذي أعطى، في المقابل، المبرّر للجماعات المتطرفة، لتستهدف الحلقة الأضعف في تاريخ المجتمع المصري، وهي الأقليات. الوضع في مجمله مقلق، وينذر بانفجار مجتمعي مرعب، لا يعرف أحد حجمه وشكله. السياسة التي يتم انتهاجها الآن هي سياسة التفكيك والدفع إلى الاقتتال الداخلي، وليس عملية الحفاظ على الدولة والمجتمع في آن واحد. ما زال هناك وقت (ليس طويلاً) لتفادي هذا المصير الكارثي. فهل من عقلاء يُعلون مصلحة البلد على مصالحهم الشخصية؟ حفظ الله مصر.

BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.