دول جوار ليبيا وأزمة الخليج

19 يونيو 2017

عناصر حفتر تشتبك في بنغازي مع "جهاديين" (20/5/2017/فرانس برس)

+ الخط -
ترافق اندلاع الأزمة السياسية في منطقة الخليج مع ظهور محاولاتٍ لإيجاد اصطفافٍ إقليمي ودولي، وفي ظل ارتباط الأوضاع السياسية في ليبيا بسياقاتٍ إقليمية ودولية، في مقدمتها مجموعة الاتصال الدولية والأفريقية، تبدو أهمية مناقشة تداعيات السياسة في الخليج على مواقف دول جوار ليبيا (مصر وتونس والجزائر) على تناول الأزمة السياسية في ليبيا وتناقضاته بين دعم الحوار السياسي والتدخل العسكري.

انتهاكات حظر السلاح
في 2011، كانت سياسة مجلس التعاون الخليجي موحدة تجاه ليبيا، حيث دعا وزراء خارجية دول المجلس، في 7 مارس/آذار 2011، مجلس الأمن إلى فرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا، كما دعم القرار 1970 (26 فبراير/شباط 2011)، فمنذ البداية ارتبطت السياسة القطرية والإماراتية والسعودية بدعم ثوار ليبيا، وكان من اللافت أن قطر هي الدولة الثانية، بعد فرنسا، في الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي ممثلاً لليبيا، وذلك تحت المظلة الخليجية والعربية وضمن قوات حلف الأطلسي (الناتو). بعد سقوط معمر القذافي، حدث تغيّر في سياسات دول الخليج، فبينما ركّزت الإمارات على البحث عن النفوذ والتأثير على وزراء الحكومة الانتقالية، وكان غالبيتهم من القريبين من النظام السابق، اتجهت قطر إلى عقد اتفاقات للتنمية مع الدولة الليبية، ما مهّد لظهور اختلاف في منظور دول الخليج إلى سياسات بناء الدولة الليبية.
وعلى الرغم من عدم طرح تقرير لجنة الخبراء الخاصة بليبيا (1 يونيو/حزيران 2017) لرئيس مجلس الأمن للمناقشات الرسمية، فإنه يكشف عن أن زيادة العتاد العسكري لدى عدد من الجماعات المسلحة شكل انتهاكاً لحظر السلاح المفروض على ليبيا (القراران 2095 و2174)، وبطريقةٍ أدت إلى نتائج عكسية ضد إرساء السلام. وفي هذا السياق، ساق مؤشراتٍ وأدلة عديدة على تورط أطرافٍ محايدةٍ ودوليةٍ في انتهاك الحظر على نشر السلاح بعد سقوط القذافي.

وقد أشار التقرير إلى تمويل قطر أسلحة قدّرت بأربعين طناً تم تسليمها في 2011 بمعرفة الجيش التونسي (فقرة 111). وفيما لم يورد تقرير الخبراء عمليات نقل عتاد عسكري منسوبة لقطر، فإنه تضمّن إشاراتٍ متكرّرة للعتاد العسكري الذي قدمته الإمارات، في السنوات الأخيرة في 2015، لحساب جيش الحكومة المؤقتة، وهي طائرات استوردتها من بيلاروسيا كمستخدم نهائي، لكنه تم نقلها لاحقاً إلى ليبيا من دون إخطار دولة المنشأ أو الأمم المتحدة، لتكون صمن عتاد مطار الخادم (الفقرات 122 - 131)، كما وردت أسلحة مدرعة في إبريل/نيسان 2016 (فقرة 160)، وإمداد ورش تثبيت الأسلحة على مركباتٍ مدنية في طبرق، بمعدات مدنية وعسكرية، وقد نقلت هذه الأسلحة عبر شركات نقل بحري سعودية من ميناءي جبل علي وجدة الإسلامي (الفقرات 162 – 163).
وبشكل عام، يكشف التقرير أن سياسة الإمارات والسعودية لم تقتصر على انتهاك قرارات الأمم المتحدة، لكنها ذهبت إلى مدى بعيد لبناء تحالفاتٍ محلية، من قبيل الكيانات السلفية والمجموعات القريبة من مشروع خليفة حفتر. وقد اتبعت قطر هذه السياسة أيضاً مع مجموعاتٍ سياسية أخرى. غير أن من الملاحظ أن حلفاء الإمارات ظلوا بعيدين عن الحل السياسي، وتتزايد ميولهم نحو الحسم العسكري، وخارج اتفاق الصخيرات، وهو ما شكل معضلةً أمام المضي في التسوية السلمية وبناء الاستقرار. وقد يشكل هذا التناقض جانباً من خلفيات الأزمة في الخليج، ويعطي واحداً من ملامح معوقات الديمقراطية، والتي تتجلى في دعم الإمارات المباشر للصراع المسلح.
وعلى المستوى المحلي، أشار "تقرير الخبراء" إلى ارتباط "الشركة الليبية للحديد والصلب" (في مصراتة) بسياسات نشر السلاح ودعم المسلحين في بنغازي (فقرة 51)، بالإضافة إلى تطوير القوات الجوية في مصراتة (فقرة 135)، وقد ذكر أن غالبية هذه العمليات اعتمدت على موارد محلية. وفيما يتعلق بتمويل الجماعات المسلحة، رصد التقرير أربعة مصادر للحصول على التمويل، تهريب الوقود، والاستفادة من الهجرة غير الشرعية، والتدخل في شؤون المؤسسات المحلية، والتجارة المحلية في السلاح، (فقرة 239). ويتعلق هذا الجانب بعدم التزام الأطراف المحلية بمنع انتشار السلاح، وهي حالةٌ يمكن قراءتها في سياق أن تفكّك الحكومات الليبية وضعف السيطرة على الحدود وعدم قدرة الأمم المتحدة على منع تهريب السلاح، كان من العوامل الرئيسية التي ساهمت في نشر السلاح داخل ليبيا، ومع تزايد الاختلاف حول تعريف السلاح الشرعي، شكّل انتهاك حظر السلاح عاملاً رئيسياً في تفاقم الصراع المسلح.


ارتباك الحل السياسي لدول الجوار
وفيما يتعلق بدول الجوار، لم يشر التقرير إلى توريد دول الجوار أسلحة إلى داخل ليبيا، ظهرت تناقضات في سياسات دول الجوار والخليج تجاه ليبيا، كانت بشكل رئيسي في جانبين: الأول، حيث الجمع بين دعم الحل السياسي والتدخل العسكري، فعلى الرغم من توافق دول الجوار على أولوية المسار السياسي، تدخلت مصر بضربات جوية ضد درنة والجفرة تحت مكافحة الإرهاب، وتم تفسيرها بأنها مساعدة لفريق خليفة حفتر، ما يضعف فكرة الارتكاز على اتفاق الصخيرات أساساً للخروج من الأزمة السياسية. الجانب الثاني هو ما يتعلق بتدخل الإمارات في الشؤون الداخلية لدول جوار ليبيا، وبطريقة تؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي، فما ورد في ورقة سياسات حول الاستراتيجية الإماراتية تجاه تونس (1 يونيو/حزيران 2017)، يكشف عن حالة من سياسات التدخل، حيث يشير الاتجاه العام للاستراتيجية الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات الاستراتيجية إلى وجود طابع تدخلي في الشؤون الداخلية لتونس لإعادة هيكلة النظام السياسي، بحيث يقوم على استبعاد حزب حركة النهضة من العملية السياسية، وذلك بالإضافة إلى رصد الجماعات التابعة لتنظيمي القاعدة وداعش على المستوى الإقليمي وليبيا. ومن جانب آخر، وضعت بعض التوجهات لكبح النفوذ القطري في تونس، وهو ما يشير إلى سياسات فوق إقليمية، تسبب قلقاً لبعض دول جوار ليبيا والمغرب العربي وإقليم الساحل، وهذا ما قد يفسّر تجانس مواقف كل من المغرب والجزائر وتونس في رفض مقاطعة السعودية والبحرين والإمارات دولة قطر.
وفي هذا السياق، تفاعلت دول جوار ليبيا مع تداعيات أزمة دول مجلس التعاون الخليجي، فقد اقترب موقف الجزائر (بيان وزارة الخارجية 6 يونيو/حزيران 2017) وتونس من الحلول الدبلوماسية للأزمة السياسية الخليجية، واحترام مبدأ حسن الجوار، باعتبارها وسيلةً وحيدةً لتسوية الخلافات، لكن دخول مصر طرفاً في هذه الأزمة قد يضع قيوداً على منظور دول الجوار بشأن أولوية الحل السياسي في ليبيا، بسبب اختلاف الروابط الإقليمية.
وقد انصب "إعلان الجزائر" الصادر عن اجتماع وزراء خارجية مصر والجزائر وتونس (6 يونيو/حزيران 2017) على دعم الحوار السياسي ومسار الأمم المتحدة ورفض الخيار العسكري، حيث استقر موقف الدول الثلاث على أولوية الحل السياسي للأزمة السياسية، وقد سار "إعلان الجزائر" على الرؤى نفسها لإيجاد تسويةٍ سياسيةٍ شاملةٍ للأزمة، تستوعب مختلف الأطراف الليبية.
وفي أثناء اجتماعات الجزائر، لم تشكل الضربات الجوية المصرية ضد مواقع في ليبيا نقطة جدلية، ويرجع تجنب نقاش هذه المسألة إلى تقارب مواقف غالبية الدول على سياسات مكافحة الإرهاب ووجود اتفاقية تعاون عسكري بين مصر والحكومة المؤقتة (طبرق). ولذلك، اتجه "إعلان الجزائر" إلى أهمية توافق الدول الثلاث على إعداد قائمة بالكيانات الإرهابية، وهو مدخل قد يؤدي إلى تغيير أولويات دول الجوار تجاه الحل السياسي، حيث إن إثارة مسألة التصنيف السياسي، على الرغم من وضوحها في قرارات مجلس الأمن، سوف تفتح أفق الصراع السياسي في ليبيا وخارجها.

تغير الصراع في ليبيا
تشير خريطة الصراع السياسي في ليبيا إلى إمكانية حدوث تغيرات في مواقف الأطراف المختلفة في المستقبل القريب، لكنها قد تأخذ البلاد إلى مرحلةٍ جديدةٍ من الصراع، فمؤشرات حالية كثيرة تدعم كثافة الاعتماد على الحسم العسكري والسيطرة على طرابلس، وهي توجهات تتناقض ومسار التسوية السياسية.
وبينما يتزايد تململ الفيدراليين من سياسات خليفة حفتر، وكانت ذروتها في إعلان مطالب "التكتل الاتحادي الوطني ـ الفيدرالي" (بيان 8 يونيو/حزيران 2017) بالدعوة إلى مؤتمر عام لسكان برقة لأجل إعادة العمل بدستور 1951 قبل تعديله، حيث يبدو قلق من الصياغات المطروحة لشكل الدولة، فقد اتجه رئيس مجلس النواب إلى "تأكيد التضامن معه"، على أرضية حل الهيئة التأسيسية، وتعيين لجنة أخرى، وتطبيق قانون العفو العام، والإفراج عن المعتقلين، وإعادة تشكيل المجلس الرئاسي من "عناصر وطنية"، وهي توجهاتٌ تؤكد على استمرار النزاع الدستوري بشأن مشروعية مؤسسات الدولة.

كما ذهب "رئيس مجلس النواب"، عقيلة صالح، (8 يونيو/حزيران 2017) إلى أن أزمة ليبيا تتمثل في حالة الإحباط من عدم بناء نظام سياسي جديد بعد ثورة فبراير، بسبب عوامل داخلية وخارجية. وفي هذا السياق، يطرح مساراً جديداً لصياغة الدستور، يتجاوز الهيئة التأسيسية عبر تعيين لجنة أخرى. وبغض النظر عن الإشكالات القانونية، فإن الوضع السياسي الراهن لا يساعد على تشكيل لجنة جديدة، حيث انتشار الصراع المسلح. وفي هذا السياق، جاء في بيان الهيئة التأسيسية (15 يونيو) أن تدهور أدائها يرجع إلى انعدام الأمن وغياب حماية مؤسسات الدولة.
ويثير تمسّك "رئيس النواب" بوضعه الدستوري قائداً أعلى للجيش مسألة تنازع السلطة مع فايز السراج والصراع حول سياسات بناء المؤسسة العسكرية والتعامل معها، ما يضفي تحدّياً آخر بجانب إصدار "الحكومة المؤقتة" قرار اعتقال مسؤولي حكومة الوفاق والمتعاطفين معها باعتبارها حكومة غير دستورية.
وقد تبع تصريحات "رئيس مجلس النواب" الإفراج عن عسكريين وسياسيين عديدين محسوبين على النظام السابق، وهي خطوةٌ يمكن أن تشكّل دعماً لبناء الجيش، وفق منظور خليفة حفتر. كما أن الإفراج عن سيف القذافي يمكن أن يؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي، ويطرح إمكانية وجود طرفٍ جديد، سواء في السلم أو الصراع، فالتحدّي هنا يكمن في أن تطبيق قانون العفو لا يأتي في سياق تفاهماتٍ حول الخروج من الأزمة السياسية، ولكنه يحدث تحت سقف انتشار الصراع المسلح.
وفي موازاة هذه التطورات، نشرت لجنة الأمن القومي (مجلس النواب) قائمة تصنيف إرهابية، شملت سياسيين ليبيين عديدين منافسين لعملية الكرامة، هي في جوهرها تنقض اتفاق الصخيرات، لشمولها سياسيين في "المجلس الأعلى للدولة" ومجلس النواب وكيانات عسكرية شكلها المؤتمر الوطني. وعلى الرغم من تصدّي "النائب العام" لهذه القائمة، فإنها تكشف عن مساق آخر للصراع السياسي والقانوني، ليس فقط في ظهور انقسامات جديدة في "مجلس النواب"، ولكن في تزايد اعتماد فريق حفتر عليها أساساً لاستبعاد خصومه عبر حلول عسكرية.
وبغض النظر عن معوقات الحوار السياسي، يمكن القول إنه مع ضعف بناء المؤسسات، يعد الإعلان عن ترتيبات المفوضية الوطنية العليا لانتخابات رئاسية وبرلمانية (مزمع عقدها في مطلع العام 2018) استباقاً للوضع السياسي والدستوري، وسوف يشكل قيداً على المرحلة المقبلة، حيث تظل هذه الموانع قائمة. وبالتالي، تبدو محاولات تعديل اتفاق الصخيرات غير قادرة على ملاحقة تسارع الأحداث داخلياً وخارجياً.
وهنا، قد يشكل اتجاه الجزائر وتونس إلى الحياد في أزمة العلاقات بين قطر من جهة والسعودية والإمارات والبحرين من جهة أخرى، فرصة مناسبة لاحتواء الصراع في ليبيا، وعدم نقله إلى منطقةٍ أخرى. لكن، ثمّة عوامل تدفع باتجاه نقل تداعيات الأزمة الخليجية، لعل أهمها ما يتعلق بربط الأزمة الداخلية في ليبيا بالتغيرات السياسية الإقليمية، وبطريقةٍ تؤدي إلى التوقف المتتالي للمسار السياسي والإقلاع عنه.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .