المغرب.. عود على بدء

31 مايو 2017

مسيرة احتجاج في الحسيمة على البطالة والفساد (28/5/2017/فرانس برس)

+ الخط -
يعيش المغرب حالة احتقان اجتماعي حادة، غير مسبوقة منذ الربيع العربي في نسخته المغربية، أحد أبرز مظاهرها الاحتجاجات التي تشهدها منطقة الريف (أقصى شمال المغرب) منذ زهاء تسعة أشهر، وبدأت عدواها تنتقل إلى عدة مناطق في المغرب. عنوان هذه الاحتجاجات، أو مطلبها، اجتماعي بالدرجة الأولى، يطالب أصحابها بالشغل والتوزيع العادل للثروة ومحاربة الفساد.
والتفسير السريع لهذه الاحتجاجات التي تزداد وتيرتها، وتتسع رقعتها، ويرتفع سقف مطالبها يوما بعد يوم، أن التنمية التي بذلت الدولة المغربية استثماراتٍ كبيرةً من أموال المغاربة في تحقيقها خلال العشريتين الماضيتين لم تصل ثمارها إلى جميع أبناء الشعب المغربي، وحتى الثروة القليلة التي تحققت لم يتم توزيعها بشكل عادل، وهناك شرائح لم يصل إليها أي شيء من غلتها. وقد سبق للعاهل المغربي، الملك محمد السادس، أن تساءل قبل أربع سنوات في خطابٍ موجه إلى الشعب: "أين الثروة؟"، في إشارةٍ منه إلى التوزيع غير العادل للثروة في المغرب الذي مازال يعيش فيه 5.8 ملايين فقير، خمسهم تحت عتبة الفقر، وأغلبهم في الأرياف، طبقا لإحصاءات صادرة قبل سنة عن "مندوبية التخطيط"، وهي هيئة حكومية رسمية.
لكن الفهم العميق لما يقع اليوم في المغرب لا يمكن استيعابه بدون وضعه في سياق التراجعات الكبرى التي شهدها المغرب في السنوات الماضية، على مستوى تنفيذ وعود الإصلاحات السياسية التي أطلقتها السلطة في المغرب عام 2011، لتلبية مطالب الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب بتأثير من رياح الربيع العربي.
اليوم، وبعد مرور ست سنوات، يجد المغرب نفسه عند نقطة البداية، وداخل المربع الأول الذي 
خرجت منه مظاهرات حركة "20 فبراير" (النسخة المغربية للربيع العربي)، فالمطالب نفسها والشعارات نفسها التي رفعتها تلك الحركة هي التي يرفعها ويردّدها اليوم المشاركون في الاحتجاجات الاجتماعية التي تشهدها أكثر من منطقة مغربية، تعبيرا عن الاحتقان الاجتماعي الذي يتفاعل داخل أحشاء مجتمع فقد ثقته في السلطة ووعودها.
وخطورة هذا الاحتقان الاجتماعي الذي تشهده أكثر من منطقة مغربية أنه مسيّس، وفي الوقت نفسه، غير مؤطر، لأن أحد أكبر أخطاء السلطة أنها عملت تدريجيا، طوال السنوات الماضية، على الإجهاز على كل الوسائط من أحزاب سياسية ونقابات اجتماعية ومجتمع مدني وإعلام مستقل، لتجد اليوم نفسها في مواجهةٍ مباشرةٍ مع مطالب الشارع الملحة وغير القابلة للتفاوض.
أما اللجوء إلى المقاربة الأمنية لإخماد غضب الشارع، كما حصل أخيرا، في منطقة الريف المغربي، فلن يزيد سوى من تأجيج هذا الغضب، وإثارته في أكثر من منطقة تعيش التهميش (والإقصاء) نفسه الذي خرج سكان منطقة الريف للاحتجاج عليه طوال الأشهر التسعة الماضية، فما يحدث اليوم في المغرب هو إعلان عن فشل "الاستثناء المغربي" الذي حملته وعود دستور 2011، والعودة التدريجية إلى ما قبل هذا التاريخ. وأحد تجليات هذا النكوص ما حدث عقب انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2016، عندما تمت إقالة رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، فيما يشبه "انقلاب القصر" على زعيم حزب العدالة والتنمية الذي لعب دورا أساسيا في تهدئة غضب الشارع عام 2011، عندما أقنع ناخبيه بجدوى الإصلاح وفعاليته من الداخل. فما فعلته السلطة عندما أقدمت على "الانقلاب" على زعيم أكبر حزب إسلامي معترف به، وظل يتصدر الانتخابات التي شهدها المغرب أعوام 2011 و2015 و2016، هو قتل آخر ما تبقى من عنصر الثقة لدى المواطن في العمل السياسي المؤطر، ولجوئه إلى الحركات الاحتجاجية التي لا يمكن التحكّم في سقف مطالبها، ولا تحديد رقع تحرّكها.
الحاجة اليوم ملحة، ليس فقط إلى الاستجابة للمطالب الاجتماعية الملحة للمحتجين، فيما يشبه
إغراءاتٍ تقدّمها السلطة لشراء سلم اجتماعي مزيف، وإنما إلى مراجعةٍ حقيقيةٍ لمسار التعثرات التي عرفتها محاولتا الانتقال الديمقراطي اللتان شهدهما المغرب طوال العقدين الماضيين، وتم إجهاضهما في مهدهما. كانت الأولى عام 1998، في ما سمي "التناوب الديمقراطي"، وبدأت المحاولة الثانية مع بداية الحراك الشعبي المغربي عام 2011 فيما سمي "الاستثناء المغربي". وتم الإجهاز على المحاولتين، بسبب عدم توفر إرادة سياسية حقيقية لإصلاح سياسي حقيقي، يقوم على فصل واضح للسلطات، وتوزيع عادل للثروة ومحاربة جدية للفساد.
ما يسميه المغاربة "سياسة الترقيع" هو الأسلوب الذي تتبعه السلطة الحاكمة، منذ استقلال المغرب قبل زهاء 60 سنة، في التعاطي مع مطالب الإصلاح الحقيقي التي يعبر عنها المجتمع كل مرة بلون مختلفٍ من أشكال الاحتجاج، وقد أبانت هذه السياسة عن محدودية فاعليتها، فهي، وإن كانت تكسب السلطة مزيدا من الوقت في الزمن المغربي الضائع، إلا أنها لا تعمل سوى على تعطيل ساعة الانفجار الذي تتفاعل مكوناته داخل أحشاء مجتمعٍ، يفاجئ كل مرة بطريقة تعبيره عن غضبه.
أعادت الاحتجاجات التي تشهدها منطقة الريف عقارب الساعة المغربية إلى نقطة الصفر، وكشف رد فعل السلطة الأمني على هذه المطالب عن فشل كل محاولات الإصلاح السياسي التي وعدت بها قبل ست سنوات، وقد حان الوقت أيضا لإعادة عقارب ساعة الإصلاح إلى الصفر لبدء جيل جديد من إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية حقيقية، يكون هدفها الأساسي هو الإصلاح الحقيقي، وليس فقط ربح الوقت من أجل الوقت، ولا شيء غير ذلك.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).