31 أكتوبر 2024
لماذا لا يضرب السجناء السوريون؟
قد يكون الامتناع وسيلة مقاومة أجدى من الفعل، وهو بعد أقل كلفةً، ولا يدفعك إلى الارتهان لممولٍ، أو ضامنٍ، أو مسلحٍ أو غيرهم. لا أحد يمكن أن يمنعك من الامتناع عن شيء. لا حواجز، ولا رقابة، ولا تجسس، ولا أي نوعٍ من الاحتياطات يمكن أن تمنع سجيناً أو أسيراً عن الامتناع عن الأكل. يمكن للسلطات أن تتوقّى الفعل، وأن تحتاط له وتحبطه، لكنها سوف تقف عاجزةً أمام الامتناع، مثل الامتناع الاحتجاجي عن الطعام، كما يفعل الأسرى الفلسطينيون اليوم، ويبرهنون مجدّداً أنه عندما تتوفر إردة المقاومة يصبح أي شيء قابلاً لأن يكون أداةً مناسبة، بما في ذلك الجوع و"الأمعاء الخاوية".
على مدى عشرات السنين، كرّس الفلسطينيون الإضراب عن الطعام وسيلةً فعالة للمقاومة، سواء الإضراب الفردي أو الجماعي، من إضرابات سجن عسقلان في 1976 و1977، إلى إضراب سجن نفحة 1980 وإضراب سجن جنيد 1984. وباتت أسماء شهداء الإضرابات توازي أسماء شهداء العمليات الفدائية. من الواضح للمتابع أن صوت الأسرى المضربين أعلى من صوت الأحزاب والجبهات والحركات، وأدنى إلى ضمير العالم. تماماً كما كان الحجر أشد فتكاً بالدبابة من الآر بي جي. الإرادة تبتكر الوسيلة، والتجربة تصطفي الأنسب، ما يجعل المقاومة الحقيقية عصيةً على الاحتواء.
يمكن تحويل السجون، وهي في الأصل وسيلة لشل فاعلية الحركة الخارجية للمسجونين، إلى مكانٍ للمقاومة والتأثير. السجن يقرّب المسافات السياسية بين المسجونين الذين تفرّقهم سياسات الخارج وتنظيماته، ويفعل السجن ذلك أكثر كلما كان وحشياً أكثر. النضال في الداخل
الفلسطيني تفوّق، في مفعوله، على النضال الخارجي، الانتفاضات الفلسطينية سندت نضال الخارج، بما لا يقل عن العكس، وربما أكثر. والنضال في داخل الداخل (في السجون) يفتح باباً فاعلاً للمقاومة، وربما يفتح باباً لوحدةٍ فعليةٍ للنضال الفلسطيني، خصوصا أن ثمة تواصلاً في سلسلة النضال الفلسطيني، ما يجعل لحركة الإضراب في السجون الاسرائيلية ممراتٍ تصل عبرها إلى الشارع الفلسطيني، وتنعكس على سياسة المؤسسات الفلسطينية جميعاً.
يضاف إلى ذلك، إذا ما حاولنا المقارنة مع المأساة السورية، أن للنضال الوطني الفلسطيني، على ما ينطوي عليه من وعورةٍ وظلمٍ وانحيازاتٍ مضادة، قبولاً واعترافاً عالمياً، لا يتوفر للنضال السوري، في عالمٍ لا يزال يرى الاستبداد شأناً داخلياً، لا يقف على درجةٍ واحدةٍ مع الاستعمار، ولا يستوجب رفضاً مماثلاً. في وعي عالمي مكرّسٍ على هذا الفهم، وهذا الحس الأخلاقي الباهت إنسانياً، لا يكون جوع المرء أو موته في سجون بلاده "قضية"، مثل موته في سجون احتلال. هذه المعايير العامة المستقلة عن "حقوق الإنسان"، والمضادة لها في الواقع، تحكم نضالات شعوب العالم، وتحيل الاستبداد إلى شأنٍ داخليٍّ قليل الأهمية، فيما أظهرت لنا الأيام أنه، في حالاتٍ كثيرة، يكون أكثر سوءاً من الاستعمار، على ما يؤكّد نظام الأسد بثبات.
تجعل المعايير العالمية السائدة، ومدونة القيم المستقرّة في المجال السياسي، وفي الوعي العام العالمي أيضاً، من قصف مدينة حلبجة العراقية بالسلاح الكيميائي في مارس/ آذار 1988، (راح ضحية القصف حوالى خمسة آلاف وخمسمائة من المدنيين الكرد) شأناً تافهاً أمام احتلال الكويت، مثلاً. والمعايير نفسها لم تجد حاجةً للتدخل في مجازر راوندا التي راح ضحيتها، حسب الإعلام الغربي (العالمي) حوالى مليون ضحية، في غضون حوالى ثلاثة أشهر بين (أبريل/ نيسان ويوليو/ تموز 1994) وبالسلاح الأبيض الذي جرى تأمينه وتوزيعه على نحو واسع في استعداد علني للمجزرة. والأمثلة التي تذهب في الاتجاه عينه، كثيرة.
لا شك في أن هذه المعايير تُحبط السجين السوري، وأمثاله، وتُقعده عن التفكير باحتجاجٍ مشابهٍ لاحتجاج الأسرى الفلسطينيين. لا يخشى النظام السوري من موت سجنائه، إنه يقتلهم بالأحرى. لا قيمة لموت سجينٍ في بلده. لهذا، لا نستغرب احتجاج أحد الصحافيين الإسرائيليين بالقول إنه لو فعلت إسرائيل ما فعله الأسد لما سكت العالم كما هو الآن. هكذا إذن، كما يطالب المحكومون بشكلٍ من الحماية العالمية ضد قتلهم وسجنهم، يتبارى الحاكمون في مطالبة العالم، من دون خجل، بالسكوت حيال جرائمهم.
حتى لو توفرت الإرادة لدى السجين السوري، سيجد أن الأجدى أن يحافظ على نفسه، إن
استطاع، من أن يدخل معركةً، خسارتها شبه مضمونة. الشروط المحيطة بالسجين السوري لا ترجّح أن يعتمد سلاح الإضراب عن الطعام. العزلة التامة للسجناء واستحالة إيجاد قضيةٍ من الإضراب حتى لو حصل، تلغي فاعلية الإضراب الأساسية المتمثلة في أنه وسيلة ضغطٍ مادتها الرأي العام. والعزلة تعني إمكانية ترك المضرب عن الطعام للموت من دون أي تبعات، فضلاً عن الوحشية المتوقعة حيال أي سلوك احتجاجي، ومن دون أي تبعاتٍ أيضاً.
التواصل النضالي الفلسطيني والقدرة على إيجاد قضية من إضراب الأسرى، قضية تترك صدىً سياسياً وحقوقياً وأخلاقياً في الوعي العام العالمي، هو ما يميز النضال داخل السجون الإسرائيلية عنه داخل السجون السورية. هذا الفارق يجعل نضال السجين السوري يتركّز في ابتكار سبل الحفاظ على النفس، هذا الطريق الذي سار عليه السجين السوري طويلاً في سجن تدمر سيىء الذكر، والذي لنا كل الأسباب لنعتقد أن مراكز الاعتقال الخفية الحالية قد أسقطته عن عرشه، باعتباره السجن السوري الأفظع.
أما في ما يخص السجناء السوريين في السجون "العادية"، مثل سجن عدرا في دمشق، فإن شبح السجون الخفية والمعتزلات كافٍ لردع أي فكرة تمرّد سلمية، كالامتناع عن الأكل. لذلك تتخذ التمرّدات في السجون السورية شكلاً عنيفاً، هو في الواقع خيار انتحاري يولده اليأس لا الأمل، فالسجين السوري، يعلم كما يعلم أمثاله في كل مكان من العالم، أنه في أحسن الأحوال مدعاة للأسف، وليس للتضامن.
على مدى عشرات السنين، كرّس الفلسطينيون الإضراب عن الطعام وسيلةً فعالة للمقاومة، سواء الإضراب الفردي أو الجماعي، من إضرابات سجن عسقلان في 1976 و1977، إلى إضراب سجن نفحة 1980 وإضراب سجن جنيد 1984. وباتت أسماء شهداء الإضرابات توازي أسماء شهداء العمليات الفدائية. من الواضح للمتابع أن صوت الأسرى المضربين أعلى من صوت الأحزاب والجبهات والحركات، وأدنى إلى ضمير العالم. تماماً كما كان الحجر أشد فتكاً بالدبابة من الآر بي جي. الإرادة تبتكر الوسيلة، والتجربة تصطفي الأنسب، ما يجعل المقاومة الحقيقية عصيةً على الاحتواء.
يمكن تحويل السجون، وهي في الأصل وسيلة لشل فاعلية الحركة الخارجية للمسجونين، إلى مكانٍ للمقاومة والتأثير. السجن يقرّب المسافات السياسية بين المسجونين الذين تفرّقهم سياسات الخارج وتنظيماته، ويفعل السجن ذلك أكثر كلما كان وحشياً أكثر. النضال في الداخل
يضاف إلى ذلك، إذا ما حاولنا المقارنة مع المأساة السورية، أن للنضال الوطني الفلسطيني، على ما ينطوي عليه من وعورةٍ وظلمٍ وانحيازاتٍ مضادة، قبولاً واعترافاً عالمياً، لا يتوفر للنضال السوري، في عالمٍ لا يزال يرى الاستبداد شأناً داخلياً، لا يقف على درجةٍ واحدةٍ مع الاستعمار، ولا يستوجب رفضاً مماثلاً. في وعي عالمي مكرّسٍ على هذا الفهم، وهذا الحس الأخلاقي الباهت إنسانياً، لا يكون جوع المرء أو موته في سجون بلاده "قضية"، مثل موته في سجون احتلال. هذه المعايير العامة المستقلة عن "حقوق الإنسان"، والمضادة لها في الواقع، تحكم نضالات شعوب العالم، وتحيل الاستبداد إلى شأنٍ داخليٍّ قليل الأهمية، فيما أظهرت لنا الأيام أنه، في حالاتٍ كثيرة، يكون أكثر سوءاً من الاستعمار، على ما يؤكّد نظام الأسد بثبات.
تجعل المعايير العالمية السائدة، ومدونة القيم المستقرّة في المجال السياسي، وفي الوعي العام العالمي أيضاً، من قصف مدينة حلبجة العراقية بالسلاح الكيميائي في مارس/ آذار 1988، (راح ضحية القصف حوالى خمسة آلاف وخمسمائة من المدنيين الكرد) شأناً تافهاً أمام احتلال الكويت، مثلاً. والمعايير نفسها لم تجد حاجةً للتدخل في مجازر راوندا التي راح ضحيتها، حسب الإعلام الغربي (العالمي) حوالى مليون ضحية، في غضون حوالى ثلاثة أشهر بين (أبريل/ نيسان ويوليو/ تموز 1994) وبالسلاح الأبيض الذي جرى تأمينه وتوزيعه على نحو واسع في استعداد علني للمجزرة. والأمثلة التي تذهب في الاتجاه عينه، كثيرة.
لا شك في أن هذه المعايير تُحبط السجين السوري، وأمثاله، وتُقعده عن التفكير باحتجاجٍ مشابهٍ لاحتجاج الأسرى الفلسطينيين. لا يخشى النظام السوري من موت سجنائه، إنه يقتلهم بالأحرى. لا قيمة لموت سجينٍ في بلده. لهذا، لا نستغرب احتجاج أحد الصحافيين الإسرائيليين بالقول إنه لو فعلت إسرائيل ما فعله الأسد لما سكت العالم كما هو الآن. هكذا إذن، كما يطالب المحكومون بشكلٍ من الحماية العالمية ضد قتلهم وسجنهم، يتبارى الحاكمون في مطالبة العالم، من دون خجل، بالسكوت حيال جرائمهم.
حتى لو توفرت الإرادة لدى السجين السوري، سيجد أن الأجدى أن يحافظ على نفسه، إن
التواصل النضالي الفلسطيني والقدرة على إيجاد قضية من إضراب الأسرى، قضية تترك صدىً سياسياً وحقوقياً وأخلاقياً في الوعي العام العالمي، هو ما يميز النضال داخل السجون الإسرائيلية عنه داخل السجون السورية. هذا الفارق يجعل نضال السجين السوري يتركّز في ابتكار سبل الحفاظ على النفس، هذا الطريق الذي سار عليه السجين السوري طويلاً في سجن تدمر سيىء الذكر، والذي لنا كل الأسباب لنعتقد أن مراكز الاعتقال الخفية الحالية قد أسقطته عن عرشه، باعتباره السجن السوري الأفظع.
أما في ما يخص السجناء السوريين في السجون "العادية"، مثل سجن عدرا في دمشق، فإن شبح السجون الخفية والمعتزلات كافٍ لردع أي فكرة تمرّد سلمية، كالامتناع عن الأكل. لذلك تتخذ التمرّدات في السجون السورية شكلاً عنيفاً، هو في الواقع خيار انتحاري يولده اليأس لا الأمل، فالسجين السوري، يعلم كما يعلم أمثاله في كل مكان من العالم، أنه في أحسن الأحوال مدعاة للأسف، وليس للتضامن.