06 نوفمبر 2024
الحديدة اليمنية... أرض بلا شعب
لطالما كانت مدينة الحديدة اليمنية مدينة مختلفة، سواء في معاناة أهلها أو في موقعها من معادلة الصراعين، الوطني والإقليمي؛ فعلى امتداد المراحل التاريخية، شكلت الحديدة منطقة صراعٍ بين الدولة المركزية والدول الأخرى التي تتوسّع على حساب الأراضي اليمنية، فمنذ استيلاء الأحباش على الدولة الحميرية في القرن السادس الميلادي وحتى سيطرة السعودية، ثم الدولة الإدريسية في أربعينات القرن المنصرم، كانت مدينة الحديدة البنية السياسية والاجتماعية التي تتطلع القوى المتصارعة على اليمن إلى مصادرتها باعتبارها إقطاعاً خاصا بها. وبالتالي، لم تكن سيطرة جماعة الحوثي على مدينة الحديدة خارج السياقات التاريخية لمأساة هذه المدينة، فلم تكن قوانين الغلبة التي فرضتها مليشيات الحوثي على الأهالي ما يفسّر سهولة سقوط المدينة، وإنما موقف مجتمع الحديدة من القوى المحلية المتصارعة على مدينتهم، أو القوى الإقليمية التي تنازع الدولة المركزية.
تشكلت الهوية السياسية لأهالي الحديدة على واقع غياب الشعور بالمواطنة، حيث جرفت السلطات الحاكمة في اليمن، وآخرها نظام علي عبدالله صالح، حقوق المواطنة لدى أبناء الحديدة، فيما تركّزت السلطات في المدينة في يد النخب القادمة من المركز والقوى الاجتماعية التي يتم إحلالها من المناطق الأخرى. كما كرّست السلطة اليمنية سلطة المشيخات، لتظل العلاقات الاجتماعية، بشكلها الاقطاعي، حاضرةً في أرياف المدينة، ليصبح الواقع المتناقض هو من يحكم المدينة الغنية التي تحوي سلة غذاء اليمنيين، وصاحبة الميناء الاستراتيجي المطل على البحر الأحمر، لكنها أيضاً أفقر المدن اليمنية، فالعائدات المهولة التي تدرّها المدينة تذهب إلى المتنفذين. وفق المظلومية التاريخية للحديدة وما نتج عنها من مزاج غير مسيس للمجتمع، لا فرق في وعيى أهالي الحديدة الفقراء بين متنفذ مليشاوي قادم من وراء حدودها أو متنفذ آخر، فكلاهما يتصارعان على خيراتها.
في المقابل، لم يكن اتجاه جماعة الحوثي إلى مدينة الحديدة خياراً استراتيجياً لها، فقد كانت
الأولوية بالنسبة لها السيطرة على مدينة ميدي، المنفذ المائي التي كانت الجماعة حريصةً على ضمه إلى إقليمها، وكان عدم ضم ميدي إلى إقليم "آزال" الذي تنضوي تحته مدينة صعدة سبباً في انقلاب جماعة الحوثي على مخرجات الحوار الوطني، إلا أن التدخل العسكري لدول التحالف جعل من الصعب عليها الاستيلاء على ميدي. وبالتالي، كانت الحديدة، بمواردها المتنوعة وسكانها المسالمين، البديل الأفضل للجماعة للتحكّم في منفذ بحري ومخزون اقتصادي لتمويل حروبها.
اللافت في المعادلة السياسية والعسكرية والأمنية في مدينة الحديدة هو انفراد جماعة الحوثي في إدارة المدينة، فخلافاً لطبيعة التحالف بين الحوثيين وصالح في إدارة المدن الخاضعة لسلطتهما، تخضع مدينة الحديدة للسلطة المطلقة لجماعة الحوثي. ويمكن تفسير غياب صالح واستفراد الحوثيين بالسلطة في المدينة بعاملين، الأول أهمية الحديدة منفذاً بحرياً بديلاً للحوثيين، والثاني عائد لأولويات صالح السياسية والعسكرية، حيث يبدو أن استفراد الحوثيين بالحديدة يساعد صالح على التخفيف من قبضتهم على صنعاء، فعلى الرغم من إدراكه أهمية مدينة الحديدة، فإن أولوية صالح في الحرب هي أن يكون محمياً في صنعاء، خصوصا وهو يخوض حربين في وقت واحد، حربا داخل حلفه مع جماعة الحوثي، وأخرى ضد السلطة الشرعية، وهو ما يحمله على التنازل عن الحديدة في مقابل الاحتفاظ بقواته العسكرية في صنعاء، فإنزال قواته إلى الحديدة سيجعله مكشوفاً لخطر داخلي غير مأمون كجماعة الحوثي.
على عكس إدارتها المدن التي تخضع لسلطتها، لم تسع جماعة الحوثي إلى شراء الولاءات داخل المدينة، أو تحسين شروط الحياة للمواطنين، وإنما قامت سياستها في مدينة الحديدة على اعتبارها مدينةً بلا مواطنين، حيث وطّنت قياداتها السياسية والعسكرية في المدينة، كنخبة حاكمة جذّرت وجودها طوال الحرب، فالقائد العسكري المعين منهم، المكنى "أبي علي"، هو الحاكم الفعلي للمدينة. كما عمدت جماعة الحوثي إلى إحلال قياداتها في جميع مؤسسات الدولة في المدينة، ولم تكتف بذلك، وإنما بسطت يدها على الأراضي الزراعية، وأقامت مصانع وشركات نفط خاصة بها، كما عزّزت جماعة الحوثي قبضتها الأمنية على أهالي المدينة، بتعيين مشرفين وأعضاء لجان ثورية ومسؤولين تنفيذيين في كل مؤسسات الدولة، واستعانت بعقّال حارات موالين لها، لاعتقال كل من يعارضها. وهو ما جعل من مدينة الحديدة سجن "قلعة" كبيرا، يرضخ تحت نيره الأهالي، إذ تتصدر مدينة الحديدة حالات الإخفاء القسري والموت جرّاء التعذيب في السجون، ففي حين تذكر مصادر أن عدد المعتقلين في سجون الحديدة يفوق ألف معتقل سياسي، مات عشرات منهم تحت التعذيب، وقتل 60 شخصا في غارة للتحالف العربي على سجن الزيدية، في 29 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، جلهم من المعتقلين السياسيين.
في معادلة الحرب كما في معادلة السلم، يسقط أهالي الحديدة من حساب أطراف الصراع
وحلفائهم، إذ تتعاطى معهم هذه الأطراف باعتبار الحديدة مدينةً بلا شعب. ففيما تروّج جماعة الحوثي للاستتباب الأمني في المدينة، تستمر بتنكيلها في حق المدنيين، وتثري قياداتها على حساب فقر الأهالي، حيث امتدت المجاعة من منطقة التحيتا إلى معظم أرياف المدينة، فيما تصادر جماعة الحوثي الإغاثة لصالح قياداتها، وتحجب مدينة الحديدة عن الرأي العام المحلي والعالمي.
لا تختلف مقاربة السلطة الشرعية لأهالي مدينة الحديدة عن جماعة الحوثي، إذ لم تلتفت الشرعية إلى المجاعة والانتهاكات التي يعاني منها الأهالي منذ سيطرة الجماعة على المدينة، في حين تصر، وبحماقة، على تحويل مدينة الحديدة إلى جبهة عسكرية، من دون الالتفات إلى أن ذلك سوف يجرّ على أهالي المدينة ويلاتٍ مضافةً إلى المجاعة، حيث تروج السعودية قائدة التحالف العربي أن معركة الحديدة ضرورةٌ لتجفيف منابع ثروات جماعة الحوثي التي تعتمد عليها في حربها، لكن ما يدفع السعودية إلى استسهال معركة الحديدة، كونها لن تشكل عقبة في أثناء التحرير وفيما بعد، فالطبيعة المسالمة لأهالي الحديدة لن يترتب عليها دخول التحالف في تحالفات ضيقة لإدارة قوى محلية في المدينة، وتمويلها مالياً وعسكرياً، كما أن معركة الحديدة لن تؤدي إلى صراع أجندات متناقضة بين دول التحالف والسلطة الشرعية، كما في المدن الأخرى.
تتجاهل الأطراف اليمنية وحلفاؤها الإقليميون تبعات زجّ الحديدة في معركةٍ يخسر فيها المدنيون المُفقرون، فمنذ مارس/ آذار الماضي، تحوّل خط الساحل ومديريات الحديدة إلى منطقة موت للمدنيين، حيث يكثف طيران التحالف غاراته مستخدماً، الصواريخ وطيران الأباتشي والذخائر العنقودية، فيما تخشى هيئتا الصليب الأحمر وأطباء بلا حدود الدخول إلى تلك المناطق. في المقابل، تحجب سلطة الحوثي مجازر الساحل، لأنها لا تعتبرهم مواطنين يستحق موتهم الإدانة، على عكس احتفائها بمجازر التحالف في مدن أخرى وتوظيفها سياسياً.
معركة الحديدة التي يتم التحضير لها في هذه الأيام هي ضد الإنسانية، فالتحشيد السياسي والعسكري والإعلامي الذي تقوده الأطراف اليمنية وحلفاؤها سيخلف مأساةً لا قبل لأفقر المدن اليمنية باحتمالها، فالمدينة، المفقرة منذ عقود طويلة، والمحرومة من كل أسباب الحياة الكريمة، تعيش أوضاعاً إنسانية كارثية عمّقتها الحرب. في المقابل، ستتمرس جماعة الحوثي خلف كل بشر وحجر للحفاظ على كنزها الثمين، ولن تبالي كعادتها بالأبرياء الذين يقتلون في مقابل استمرار قبضتها على المدينة.
على المجتمع الدولي الضغط على أطراف الصراع اليمنية وحلفائها لتحييد أفقر المدن اليمنية، وتجنيبها ويلات مواجهة عسكرية لن تطاول الحوثي بقدر ما ستطاول الأهالي الفقراء، كما على قيادة التحالف، ومن ورائها الشرعية، أن لا تتجاهل المناشدات الإنسانية لتحييد مدينة الحديدة. وعليها، قبل خوض معركتها هناك، أن تدرك أن مدينة الحديدة ليست فقط مزارع وميناء مهما للحوثي، وأن فيها بشرا يتوجب إخلاؤهم أولاً.
تشكلت الهوية السياسية لأهالي الحديدة على واقع غياب الشعور بالمواطنة، حيث جرفت السلطات الحاكمة في اليمن، وآخرها نظام علي عبدالله صالح، حقوق المواطنة لدى أبناء الحديدة، فيما تركّزت السلطات في المدينة في يد النخب القادمة من المركز والقوى الاجتماعية التي يتم إحلالها من المناطق الأخرى. كما كرّست السلطة اليمنية سلطة المشيخات، لتظل العلاقات الاجتماعية، بشكلها الاقطاعي، حاضرةً في أرياف المدينة، ليصبح الواقع المتناقض هو من يحكم المدينة الغنية التي تحوي سلة غذاء اليمنيين، وصاحبة الميناء الاستراتيجي المطل على البحر الأحمر، لكنها أيضاً أفقر المدن اليمنية، فالعائدات المهولة التي تدرّها المدينة تذهب إلى المتنفذين. وفق المظلومية التاريخية للحديدة وما نتج عنها من مزاج غير مسيس للمجتمع، لا فرق في وعيى أهالي الحديدة الفقراء بين متنفذ مليشاوي قادم من وراء حدودها أو متنفذ آخر، فكلاهما يتصارعان على خيراتها.
في المقابل، لم يكن اتجاه جماعة الحوثي إلى مدينة الحديدة خياراً استراتيجياً لها، فقد كانت
اللافت في المعادلة السياسية والعسكرية والأمنية في مدينة الحديدة هو انفراد جماعة الحوثي في إدارة المدينة، فخلافاً لطبيعة التحالف بين الحوثيين وصالح في إدارة المدن الخاضعة لسلطتهما، تخضع مدينة الحديدة للسلطة المطلقة لجماعة الحوثي. ويمكن تفسير غياب صالح واستفراد الحوثيين بالسلطة في المدينة بعاملين، الأول أهمية الحديدة منفذاً بحرياً بديلاً للحوثيين، والثاني عائد لأولويات صالح السياسية والعسكرية، حيث يبدو أن استفراد الحوثيين بالحديدة يساعد صالح على التخفيف من قبضتهم على صنعاء، فعلى الرغم من إدراكه أهمية مدينة الحديدة، فإن أولوية صالح في الحرب هي أن يكون محمياً في صنعاء، خصوصا وهو يخوض حربين في وقت واحد، حربا داخل حلفه مع جماعة الحوثي، وأخرى ضد السلطة الشرعية، وهو ما يحمله على التنازل عن الحديدة في مقابل الاحتفاظ بقواته العسكرية في صنعاء، فإنزال قواته إلى الحديدة سيجعله مكشوفاً لخطر داخلي غير مأمون كجماعة الحوثي.
على عكس إدارتها المدن التي تخضع لسلطتها، لم تسع جماعة الحوثي إلى شراء الولاءات داخل المدينة، أو تحسين شروط الحياة للمواطنين، وإنما قامت سياستها في مدينة الحديدة على اعتبارها مدينةً بلا مواطنين، حيث وطّنت قياداتها السياسية والعسكرية في المدينة، كنخبة حاكمة جذّرت وجودها طوال الحرب، فالقائد العسكري المعين منهم، المكنى "أبي علي"، هو الحاكم الفعلي للمدينة. كما عمدت جماعة الحوثي إلى إحلال قياداتها في جميع مؤسسات الدولة في المدينة، ولم تكتف بذلك، وإنما بسطت يدها على الأراضي الزراعية، وأقامت مصانع وشركات نفط خاصة بها، كما عزّزت جماعة الحوثي قبضتها الأمنية على أهالي المدينة، بتعيين مشرفين وأعضاء لجان ثورية ومسؤولين تنفيذيين في كل مؤسسات الدولة، واستعانت بعقّال حارات موالين لها، لاعتقال كل من يعارضها. وهو ما جعل من مدينة الحديدة سجن "قلعة" كبيرا، يرضخ تحت نيره الأهالي، إذ تتصدر مدينة الحديدة حالات الإخفاء القسري والموت جرّاء التعذيب في السجون، ففي حين تذكر مصادر أن عدد المعتقلين في سجون الحديدة يفوق ألف معتقل سياسي، مات عشرات منهم تحت التعذيب، وقتل 60 شخصا في غارة للتحالف العربي على سجن الزيدية، في 29 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، جلهم من المعتقلين السياسيين.
في معادلة الحرب كما في معادلة السلم، يسقط أهالي الحديدة من حساب أطراف الصراع
لا تختلف مقاربة السلطة الشرعية لأهالي مدينة الحديدة عن جماعة الحوثي، إذ لم تلتفت الشرعية إلى المجاعة والانتهاكات التي يعاني منها الأهالي منذ سيطرة الجماعة على المدينة، في حين تصر، وبحماقة، على تحويل مدينة الحديدة إلى جبهة عسكرية، من دون الالتفات إلى أن ذلك سوف يجرّ على أهالي المدينة ويلاتٍ مضافةً إلى المجاعة، حيث تروج السعودية قائدة التحالف العربي أن معركة الحديدة ضرورةٌ لتجفيف منابع ثروات جماعة الحوثي التي تعتمد عليها في حربها، لكن ما يدفع السعودية إلى استسهال معركة الحديدة، كونها لن تشكل عقبة في أثناء التحرير وفيما بعد، فالطبيعة المسالمة لأهالي الحديدة لن يترتب عليها دخول التحالف في تحالفات ضيقة لإدارة قوى محلية في المدينة، وتمويلها مالياً وعسكرياً، كما أن معركة الحديدة لن تؤدي إلى صراع أجندات متناقضة بين دول التحالف والسلطة الشرعية، كما في المدن الأخرى.
تتجاهل الأطراف اليمنية وحلفاؤها الإقليميون تبعات زجّ الحديدة في معركةٍ يخسر فيها المدنيون المُفقرون، فمنذ مارس/ آذار الماضي، تحوّل خط الساحل ومديريات الحديدة إلى منطقة موت للمدنيين، حيث يكثف طيران التحالف غاراته مستخدماً، الصواريخ وطيران الأباتشي والذخائر العنقودية، فيما تخشى هيئتا الصليب الأحمر وأطباء بلا حدود الدخول إلى تلك المناطق. في المقابل، تحجب سلطة الحوثي مجازر الساحل، لأنها لا تعتبرهم مواطنين يستحق موتهم الإدانة، على عكس احتفائها بمجازر التحالف في مدن أخرى وتوظيفها سياسياً.
معركة الحديدة التي يتم التحضير لها في هذه الأيام هي ضد الإنسانية، فالتحشيد السياسي والعسكري والإعلامي الذي تقوده الأطراف اليمنية وحلفاؤها سيخلف مأساةً لا قبل لأفقر المدن اليمنية باحتمالها، فالمدينة، المفقرة منذ عقود طويلة، والمحرومة من كل أسباب الحياة الكريمة، تعيش أوضاعاً إنسانية كارثية عمّقتها الحرب. في المقابل، ستتمرس جماعة الحوثي خلف كل بشر وحجر للحفاظ على كنزها الثمين، ولن تبالي كعادتها بالأبرياء الذين يقتلون في مقابل استمرار قبضتها على المدينة.
على المجتمع الدولي الضغط على أطراف الصراع اليمنية وحلفائها لتحييد أفقر المدن اليمنية، وتجنيبها ويلات مواجهة عسكرية لن تطاول الحوثي بقدر ما ستطاول الأهالي الفقراء، كما على قيادة التحالف، ومن ورائها الشرعية، أن لا تتجاهل المناشدات الإنسانية لتحييد مدينة الحديدة. وعليها، قبل خوض معركتها هناك، أن تدرك أن مدينة الحديدة ليست فقط مزارع وميناء مهما للحوثي، وأن فيها بشرا يتوجب إخلاؤهم أولاً.