11 سبتمبر 2024
خطر الاحتجاجات الاجتماعية في تونس
يصرّ منسّق الشباب المعتصم في شوارع مدينة مدنين في الجنوب التونسي، معز بوعيش، على إيصال رسالة زملائه إلى الحكومة التونسية، برفض جميع ما وصفها بأنها قرارات ترقيعية، جاءت بها وفود رئيس الوزراء، يوسف الشاهد، إلى المنطقة، مؤكداً على مطلب الشباب الوحيد: التشغيل ثم التشغيل. منذ فترة ومدينة تطاوين الهادئة في الجنوب التونسي تشهد اعتصامات، أصبحت الشوارع ميدانا لها، ولاحتجاجات صاخبة ضد فقدان التنمية في المنطقة، وخصوصا أنها تعتبر خزّان تونس من النفط، وتعمل فيها شركات بترولية عديدة.
ليست تطاوين التي يُعاني شبابها المتعلم من ارتفاع نسبة البطالة وحيدةً في التخلف عن ركب التنمية، تردفها في ذلك مدن ومناطق أخرى، كالكاف وقفصة وغيرهما، مصنفةً في خانة التهميش. ولأجل ذلك، كانت وقود الثورة التي أطاحت الرئيس السابق، زين العابدين بن علي. لا يجادل التونسيون في أن هذه المناطق كانت تعيش على هامش التنمية منذ استقلال تونس العام 1956، فلا حكومة الرئيس لحبيب بورقيبة، ولا حكومات من أعقبه استطاعت أن تضخّ استثماراتٍ من شأنها المساهمة في حل المشكلات الاقتصادية والمعيشية لسكان هذه المناطق، البعيدة عن الساحل التونسي، والذي كان بامتياز محجّة المستثمرين في كل القطاعات من صناعات تحويلية إلى السياحة التي خطت تونس، في مضمارها، خطواتٍ جيدة مكّنتها من أن تكون وجهة عالمية، خصوصا في فترات الاستقرار السياسي، كما لا يمكن لمحترفي السياسة نسيان أن بعض المناطق طاولها التهميش عنوةً، بحجة أنها كانت حاضنة رموز المعارضة، في عهدي بورقيبة وزين العابدين بن علي.
لم تتعامل حكومات ما بعد الثورة بالجدية المطلوبة مع المطالب التنموية، وفي مقدمتها إيجاد فرص عمل للشباب، لعدة أسباب، لعل من أهمها تماهي أهل السياسة، ومن كل الاتجاهات، في صراعاتٍ بينيةٍ أفقدت الثورة بوصلتها، وأغرقتها في خصوماتٍ سياسية، وصلت إلى حد العداوة ونكران الآخر في بعض الأحيان، بل والعمل على تسويد صحيفته أمام الرأي العام، وتسفيه كل مخططاته وإنجازاته، وهو المناخ العام الذي عرفته تونس خلال الأعوام الستة الماضية، ولم يسمح بالاستقرار لحكومةٍ، حتى تتنادى أصوات من هنا وهناك لإسقاطها، واستبدالها بحكومة أخرى، لا ينتهي أعضاؤها من فرز ملفاتهم وتدوين برامجهم، حتى يسمعوا مناديا يُطالبهم بإرجاع مفاتيح الوزارات والعودة إلى منتديات التنابز السياسي الذي اجتهد الكل، في الظل وفي العلن، على التبارز فيه، خصوصا مع فورةٍ متفرّدة في تونس لمنتديات التواصل الاجتماعي، وعمل حاشد للأفراد في الفعل السياسي الذي وجد فيه الشباب، وخصوصا المتعلم منه، ضالته وملاذه، في غياب استقرار أي مشروع تنموي واضح وجامع لمختلف التيارات السياسية والنقابية التونسية.
رمت حكومة يوسف الشاهد التي نأت بنفسها عن راهن الحال الاقتصادي في المناطق التي توصف بالمهمشة الكرة أيضا في ملعب الحكومات السابقة، فلم تتردّد في دفعها الاتهام عن نفسها، بالقول، إثر لقائها المعتصمين في تطاوين، إن للحكومات التي سبقتها مسؤولية أيضا في ما آلت إليه الأوضاع في المدينة.
في الأثناء، يلح سؤال وجيه عن كيفية تحقيق الحكومة الحالية مطالب الشباب المعتصمين، والذين يُهدّدون بتصعيد الاحتجاجات، إن لم يُستجب لمطالبهم. لا يكفي، في مثل هذه الحالات، اتخاذ إجراءات اختزالية تبسيطية، على نحو إعفاء مسؤولين في المنطقة، وإرسال آخرين يحلون محلهم لتهدئة الأوضاع، وتقديم وعودٍ تذوب مع طلوع أول خيطٍ من شمس الحقيقة. ولكنْ ألا يزيد الضغط على الحكومة التونسية في الوقت الحالي الأعباء، بينما هي تكاد تعجز عن الاستجابة للمصاريف اليومية للتسيير، في وقتٍ يُماطل فيه صندوق النقد الدولي في دفع القسط الثاني من قرضه لتونس، مشترطا إكمالها إصلاحاتٍ طالب بإنجازها.
تنتظر الحكومة التونسية الدفعة الثانية من القرض، وهذا يستلزم الوفاء بشروطٍ يدعوها الصندوق إلى الوفاء بها، من قبيل إصلاحاتٍ في الأجور، والوظائف، والقطاع البنكي. تتردّد الحكومة في الإيفاء بما تسمى إصلاحات، لأن التداعيات الاجتماعية لها ستكون باهظة الثمن وخطيرة على السلم المدني. وحتى وإن كان الشاهد يُلوّح بتبني سياساتٍ تقشفيةٍ في حال
استمرّت الأزمة الاقتصادية، إلا أن معالم حماية الفئات والجهات المهمشة لم تتضح بعد، زادها وزرا حديثٌ في العلن عن فسادٍ يقول عنه رئيس هيئة مكافحة الفساد، شوقي الطبيب، إنه تجاوز الخطوط الحمراء، وإن بلاده تخسر سنويا أربع نقاط في سلم التنمية، بسبب تفشّي الرشوة. حيث حلّت تونس في المركز 76 من بين 168 دولة، وفق ما نشرته منظمة الشفافية الدولية، ذلك أن غياب قوانين لمكافحة الفساد من الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، ساهم في انتشار ثقافة الفساد لدى الناس، على الرغم من المحاولات الظرفية التي قامت بها الحكومات، ولم تأت بنتيجة رادعةٍ لمثل هذه الممارسات المضرّة بالاقتصاد.
اضطُرت الحكومة في ظرف اقتصادي صعب إلى خفض التعيين في الوظائف الحكومية، حتى تجاوزت نسبة البطالة 15%، وفق المعهد التونسي للإحصاء. وزاد من اختلال التوازنات تراجع الاستثمار الخاص إلى مستويات متدنيّة، بل وأدت الظروف السياسية المتعثرة إلى عزوف المستثمرين التونسيين عن ضخ أموال جديدة في الاقتصاد، وتفضيلهم الاستثمار في الخارج، وهو ما صرح به أحدهم علنا في أحد البرامج التلفزيونية، وأدى إلى موجة استنكار شعبي ونخبوي.
ما يجري من احتجاجاتٍ تكاد تونس برمتها تكون مسرحا له، كان نتيجة تغيير على المستوى السياسي حدث في 2011، لم يرافقه نهوضٌ اقتصادي أو اجتماعي. صحيح أن نَفَس الثورات طويل، وأن ثمنها ليس يسيرا، ولكن ذلك ليس مسوغا لارتكاب حماقات سياسية واقتصادية تصب في غير مصلحة تونس. وبوجود قوى تدفع أكثر باتجاه الثورات المضادّة، ليس مستبعداً تورّط شباب في عمليات حرق ونهب، بل وضغط في اتجاه التراجع عن مكتسبات سياسية ديمقراطية، اكتسبها الشعب التونسي بدمائه التي سالت وتضحياته الغالية، بحجة العودة إلى استقرار اقتصادي فشلت في تأمينه كل الحكومات بعد الثورة.
ليست تطاوين التي يُعاني شبابها المتعلم من ارتفاع نسبة البطالة وحيدةً في التخلف عن ركب التنمية، تردفها في ذلك مدن ومناطق أخرى، كالكاف وقفصة وغيرهما، مصنفةً في خانة التهميش. ولأجل ذلك، كانت وقود الثورة التي أطاحت الرئيس السابق، زين العابدين بن علي. لا يجادل التونسيون في أن هذه المناطق كانت تعيش على هامش التنمية منذ استقلال تونس العام 1956، فلا حكومة الرئيس لحبيب بورقيبة، ولا حكومات من أعقبه استطاعت أن تضخّ استثماراتٍ من شأنها المساهمة في حل المشكلات الاقتصادية والمعيشية لسكان هذه المناطق، البعيدة عن الساحل التونسي، والذي كان بامتياز محجّة المستثمرين في كل القطاعات من صناعات تحويلية إلى السياحة التي خطت تونس، في مضمارها، خطواتٍ جيدة مكّنتها من أن تكون وجهة عالمية، خصوصا في فترات الاستقرار السياسي، كما لا يمكن لمحترفي السياسة نسيان أن بعض المناطق طاولها التهميش عنوةً، بحجة أنها كانت حاضنة رموز المعارضة، في عهدي بورقيبة وزين العابدين بن علي.
لم تتعامل حكومات ما بعد الثورة بالجدية المطلوبة مع المطالب التنموية، وفي مقدمتها إيجاد فرص عمل للشباب، لعدة أسباب، لعل من أهمها تماهي أهل السياسة، ومن كل الاتجاهات، في صراعاتٍ بينيةٍ أفقدت الثورة بوصلتها، وأغرقتها في خصوماتٍ سياسية، وصلت إلى حد العداوة ونكران الآخر في بعض الأحيان، بل والعمل على تسويد صحيفته أمام الرأي العام، وتسفيه كل مخططاته وإنجازاته، وهو المناخ العام الذي عرفته تونس خلال الأعوام الستة الماضية، ولم يسمح بالاستقرار لحكومةٍ، حتى تتنادى أصوات من هنا وهناك لإسقاطها، واستبدالها بحكومة أخرى، لا ينتهي أعضاؤها من فرز ملفاتهم وتدوين برامجهم، حتى يسمعوا مناديا يُطالبهم بإرجاع مفاتيح الوزارات والعودة إلى منتديات التنابز السياسي الذي اجتهد الكل، في الظل وفي العلن، على التبارز فيه، خصوصا مع فورةٍ متفرّدة في تونس لمنتديات التواصل الاجتماعي، وعمل حاشد للأفراد في الفعل السياسي الذي وجد فيه الشباب، وخصوصا المتعلم منه، ضالته وملاذه، في غياب استقرار أي مشروع تنموي واضح وجامع لمختلف التيارات السياسية والنقابية التونسية.
رمت حكومة يوسف الشاهد التي نأت بنفسها عن راهن الحال الاقتصادي في المناطق التي توصف بالمهمشة الكرة أيضا في ملعب الحكومات السابقة، فلم تتردّد في دفعها الاتهام عن نفسها، بالقول، إثر لقائها المعتصمين في تطاوين، إن للحكومات التي سبقتها مسؤولية أيضا في ما آلت إليه الأوضاع في المدينة.
في الأثناء، يلح سؤال وجيه عن كيفية تحقيق الحكومة الحالية مطالب الشباب المعتصمين، والذين يُهدّدون بتصعيد الاحتجاجات، إن لم يُستجب لمطالبهم. لا يكفي، في مثل هذه الحالات، اتخاذ إجراءات اختزالية تبسيطية، على نحو إعفاء مسؤولين في المنطقة، وإرسال آخرين يحلون محلهم لتهدئة الأوضاع، وتقديم وعودٍ تذوب مع طلوع أول خيطٍ من شمس الحقيقة. ولكنْ ألا يزيد الضغط على الحكومة التونسية في الوقت الحالي الأعباء، بينما هي تكاد تعجز عن الاستجابة للمصاريف اليومية للتسيير، في وقتٍ يُماطل فيه صندوق النقد الدولي في دفع القسط الثاني من قرضه لتونس، مشترطا إكمالها إصلاحاتٍ طالب بإنجازها.
تنتظر الحكومة التونسية الدفعة الثانية من القرض، وهذا يستلزم الوفاء بشروطٍ يدعوها الصندوق إلى الوفاء بها، من قبيل إصلاحاتٍ في الأجور، والوظائف، والقطاع البنكي. تتردّد الحكومة في الإيفاء بما تسمى إصلاحات، لأن التداعيات الاجتماعية لها ستكون باهظة الثمن وخطيرة على السلم المدني. وحتى وإن كان الشاهد يُلوّح بتبني سياساتٍ تقشفيةٍ في حال
اضطُرت الحكومة في ظرف اقتصادي صعب إلى خفض التعيين في الوظائف الحكومية، حتى تجاوزت نسبة البطالة 15%، وفق المعهد التونسي للإحصاء. وزاد من اختلال التوازنات تراجع الاستثمار الخاص إلى مستويات متدنيّة، بل وأدت الظروف السياسية المتعثرة إلى عزوف المستثمرين التونسيين عن ضخ أموال جديدة في الاقتصاد، وتفضيلهم الاستثمار في الخارج، وهو ما صرح به أحدهم علنا في أحد البرامج التلفزيونية، وأدى إلى موجة استنكار شعبي ونخبوي.
ما يجري من احتجاجاتٍ تكاد تونس برمتها تكون مسرحا له، كان نتيجة تغيير على المستوى السياسي حدث في 2011، لم يرافقه نهوضٌ اقتصادي أو اجتماعي. صحيح أن نَفَس الثورات طويل، وأن ثمنها ليس يسيرا، ولكن ذلك ليس مسوغا لارتكاب حماقات سياسية واقتصادية تصب في غير مصلحة تونس. وبوجود قوى تدفع أكثر باتجاه الثورات المضادّة، ليس مستبعداً تورّط شباب في عمليات حرق ونهب، بل وضغط في اتجاه التراجع عن مكتسبات سياسية ديمقراطية، اكتسبها الشعب التونسي بدمائه التي سالت وتضحياته الغالية، بحجة العودة إلى استقرار اقتصادي فشلت في تأمينه كل الحكومات بعد الثورة.