لكنها أولاً امرأة

25 مارس 2017

(لؤي كيالي)

+ الخط -
منذ انتهاء العصر الأمومي، ومع بداية فكرة التوحيد، انتقلت المركزية من سلطة المرأة المشاعية (بالمعنى الإيجابي)، حيث كانت المرأة السيدة وصاحبة الأمر، في علاقة اجتماعية وإنتاجية شبيهة جدا بعلاقات النحل، إلى سلطة الذكر الفرد المطلق، والذي لا يشاركه أحد في حكمه وقراراته وسلطته. ومنذ ذلك الوقت، ومع ظهور الأديان، بدأت فكرة التقديس وتكريس المقدّس، بدءاً من الخالق والرسل والكتب السماوية، وصولاً إلى تكريس فكرة تقديس البشر العاديين من أصحاب السلطة على اختلاف أنواعها، على أن ثمة تقديسا آخر حصل هو التقديس الاجتماعي لمجموعة من الأفكار، واعتبارها بديهياتٍ لا تجوز مناقشتها ويحرّم المساس بها، تماما كما يحرّم المساس بالمقدس الديني، أو مناقشته وتحليله، من هذه الأفكارالاجتماعية، والتي لا تختص بدين معين، فكرة الأم، الأم بوصفها كائناً بلا شوائب وميكروبات اجتماعية مما يصاب بها الآخرون.
هذه الهالة القدسية حول الأم نتيجة طبيعية لسلطة الفرد المطلق، وتكريس البطريركية الذكورية في المجتمعات التي كانت سلطة الدين فيها متحالفةً مع السلطة السياسية، فلكي تبقى سلطة الذكر سائدة ومسيطرة، يجب إقصاء المرأة، المرأة التي غالبا ما يشكل وجودها أكثر من نصف المجتمع، فأكثر ضحايا الحروب من الذكور، ما جعل عدد النساء، تاريخيا، يتفوّق على عدد الذكور. الحروب التي لم تبدأ إلا بعد القضاء التام على كل ما يمتّ لعصر الأمومة بصلة، حروب السلطة والسيطرة والاقتصاد والسياسة، وهو ما كان غير مطروحٍ في عصرالأمومة المسمى العصر المشاعي، لم تكن فكرة التفوق السلطوي واردة حينها، كان لا بد لبسط سيطرة الذكر من إقصاء حضور المرأة اجتماعيا، والإقصاء الاجتماعي يتبعه باللزوم إقصاء سياسي واقتصادي وعلمي وغيرها، وليتم هذا لا بد من رسم هالةٍ ما، يكون من السهل سجن المرأة بها، وهل ثمّة ما هو أسهل من دور الأمومة، طالما الطبيعة بحد ذاتها وهبت المرأة ميزة أن تكون أما وحاضنة للحياة؟ لا بأس، لا يمكن لأحد أن يرفض قيمة كالأمومة، أو أن يحاول نكرانها، فرحم المرأة هو المنتج للحياة، وهو سبب استمرارها، هل من فخر وقوة أكثر من ذلك؟
ولكن، ما حدث هو التالي، تم اختصار الأنثى بالأمومة، وتم التعامل مع الفكرة وكأن الأمومة من أجناس البشر، فالأم منزّهة عن الشهوات والرغبات والأهواء، لا يخطر في بالها ما يخطر في بال البشر الطبيعيين، عواطفها موجهة لأولادها فقط، تضحي من أجلهم بكل شيء حتى بحياتها، إن كان زوجها سيئا وهجرها، أو انفصلت عنه، فحياتها لأولادها فقط. لا يحق لها أن تبني حياة جديدة مع رجل آخر، سيعتبرها الجميع مارقةً، وسيحمّلها أبناؤها ذنبا أبديا، متجاهلين نكران والدهم لهم ولها. لن يرحمها أحد إذا ارتكبت خطأ بسيطا من الأخطاء الإنسانية، فالأم يفترض أنها لا تخطئ أخطاء لا تناسب دورها. هي القدوة والمثل لأبنائها، وعليها أن تحافظ على هذا.
يتناسى الجميع، بما فيهم النساء أحياناً، أن الأم، قبل أن تكون زوجة وأما، هي أولاً امرأة، تحمل ما تحمله من الرغبات والشهوات والطموحات والانحيازات، تحمل كل أنواع الغرائز، والمشاعر البشرية التي تشكل التفاصيل اليومية للحياة، السابقة للأمومة، لا اللاحقة لها أو المتماهية معها. والعجيب أكثر هو كيف تم ربط الأمومة بالاكتمال، وتم تكريس هذا الربط في ذهن غالبية النساء منذ طفولتهن: المرأة التي لا تنجب ناقصة، ثمّة نساء اخترن أن لا ينجبن أطفالا، يقلن إن فكرة إنجاب طفل إلى هذا العالم البائس تجعلهن يشعرن بالذنب مسبقا، هل هن ناقصاتٌ، لأنهن لم ينجبن، ثمة أخرياتٌ عشن مع رجالٍ لا ينجبون أطفالا، عمرا كاملا، ولم يعترضن، واعتبرن الأمر طبيعيا وعاديا، هل هن ناقصات أيضا؟
على قدر ما يمكن للأمومة أن تغيره في تركيبة المرأة النفسية، وعلى قدر جمال أن تكون المرأة أماً، ثمة ظلمٌ يطاول هذه الأم، حين يُصار إلى تقديس دورها، بحيث تبدأ هي نفسها بالشعور بالذنب لدى خروجها عن النمط الاجتماعي، ولو ذهنيا فقط، سينتج هذا الإحساس بالذنب علاقة مريضة مع الأبناء، علاقة مشوهة لا فطام فيها، سيصعب على الأبناء معها أن يبنوا حياةً مستقلة سليمة، وسيصعب على الأم أن تعيش بعيدةً عن حياة أبنائها، خصوصا إذا كانت مطلقة أو أرملة، ستجد حياتها فارغةً فجأة، حين يرحل الأبناء إلى حياتهم، فارغة وموحشة، إلى حد أنها قد تصاب بالشيخوخة والعجز المبكّرين، إذ لا شيء آخر لتفعله، مع أنها قد تكون في سن قادرة معها على التمتع بالحياة، وقادرة أيضا على رفد الحياة بطاقة أخرى غير الأمومة، طاقة الحضور الفاعل للأنثى في هذا العالم.
دلالات
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.