ملتقى حلب في بروكسل

05 يوليو 2024
+ الخط -

قرأت في صفحات الأصدقاء خبراً عن إقامة ملتقى حلب لقصيدة النثر في دورته الثالثة، ويُقام في العاصمة البلجيكية بروكسل، بمشاركة شعراء سوريين وعرب مُقيمين خارج بلادهم الأصلية. ولا أخفيكم أنّني حسدت الأصدقاء على هذه اللمّة الجميلة، وعلى المشاركة في هذا الملتقى الذي كان لي حظوة المشاركة في دورته الأولى، وحضور الثانية بصحبة عديد من الأصدقاء السوريين والعرب، في  حلب في 2009 و2010، قبل أن يتوقّف بسبب الكارثة التي أصابت السوريين جميعاً، وقضت على كلّ آمالهم وأحلامهم بالتغيير.

أتذكّر في بداية الثورة (2011)، أنّي كنت أتحدّث مع أحد الأصدقاء المُنظّمين للملتقى نخطّط لما ستكون عليه الدورة الثالثة منه بعد انتصار الثورة، ودخول سورية في عهد جديد من الحرّيات والديمقراطية، واتّفقنا أن نعمل لتكوين شراكةٍ بين مهرجان السنديان، الذي كنت أنظّمه مع مجموعة من الأصدقاء في قريتي الملاجة في الساحل السوري، وملتقى حلب لقصيدة النثر، تعبيراً عن وحدة الشعب السوري في مناطقه كلّها. كان ذلك الحديث قبل تمدّد الوباء الطائفي والمذهبي والمناطقي في سورية، وقبل أن تتحوّل الثورة ثورةً مسلّحةً وإسلامية، وتتشارك مع النظام في كثير من حيثياته التي قامت الثورة أساساً ضدّها.

كانت لملتقى حلب نكهة خاصّة به تميّزه عن غيره من المهرجانات الشعرية في سورية، إذ كان واحداً من فعّاليات أهلية نادرة جدّاً تقام في سورية من دون دعم مادّي من أيّ جهة رسمية، ويُقام بجهود مجموعة من الأصدقاء الشعراء المُثقّفين في حلب. لم تكن لدى المُنظّمين ميزانية تكفي لاستقبال الضيوف في فنادق حلب، حتّى لو كانت متواضعة، لهذا، كان الخيار هو استقبال الضيوف في بيوت الأصدقاء. كنا في العامَين اللذَين أقيم فيهما الملتقى نتوزّع بين بيوت الأصدقاء المُنظّمين، ونقيم مع عائلاتهم، ونأكل من طعامهم، ونعيش تفاصيل يوميّاتهم ويوميّات أُسَرِهم وأطفالهم، من دون أن يشعر أحدنا بأنّه يُثقل على أحد من فرط ترحابهم ومودّتهم وكرمهم ولطفهم.

في نهاية كلّ يوم من الملتقى، كنّا نجتمع في مطعم واسع، وينضمّ إلينا أصدقاء كثيرون، ونُحيي تلك الليالي بكثير من الفرح والغناء والموسيقا والرقص، كما لو أنّنا كنّا نودّع سورية، ويودّع بعضُنا بعضاً، نحن الذين لم يبقَ منّا، في حلب أو في سورية، إلا اثنين أو ثلاثة. أمّا البقيّة فأصبحنا نعيش في مدن جديدة وبعيدة في مختلف أصقاع الأرض، بعدما هبّت علينا عاصفة مجنونة شتّتت أحلامنا وسلامنا، وشتّتت أجسادنا وأرواحنا، خصوصاً أنّ بعضنا فارق الحياة في غربته، وبعضنا الآخر أصيب بأمراض عضوية ونفسية، لم يكن التقدّم في السن هو السبب الوحيد لها، بل هذا الألم الممضّ الذي نشعر به جميعاً؛ ألم الفقد والغياب والحسرة والخذلان والخيبة والوحدة، الذي يظهر في شكل عللٍ وأمراضٍ تقتاتُ على لحم قلوبنا وأرواحنا، وتتركنا مُجرّد أجساد باهتة تحرّكها أرواح قلقة.

أفكّر في كيف ستكون عليه الدورة الثالثة من الملتقى في بروكسل؟... قد تكون الطبيعة هناك أكثر جمالاً من طبيعة حلب، وقد تكون الإمكانات اللوجستية المتاحة أفضل مما كانت عليه في حلب، وقد تتمّ استضافة الأصدقاء في فنادق أوروبيّة صغيرة ونظيفة، لكن، هل سيحمل الملتقى الروح الآسرة نفسها، التي كانت له قبل 14 عاماً؟ هل بقيت الحماسة والشغف ذاته لدى الأصدقاء فيتمكّنون من استرجاع هُويّة الملتقى ذاتها، التي كانت في حلب؟ أتمنّى أن يتمكّنوا من ذلك، وإن كنتُ أظنّ أنّ الأمر سيختلف، ذلك أنّ أيّ فعل ثقافي ومدني سوف يكون متاحاً، وبسهولة، في أي بلد أوروبي. في سورية كان الأمر عسيراً، كان هناك تحدّ للنظام وأوامره وتعليماته الأمنية في إقامة أيّ نشاط ثقافي مدني وأهلي، هذا التحدّي هو مصدر الشغف الذي كان وراء أيّ عمل ثقافي من هذا النوع. أن تقوم بفعل جماعي وثقافي مدني وأنت تدرك أنّكَ قد تتعرّض للمساءلة الأمنية في بلد يمنع مواطنيه من أيّ فعل مدني، ويختصر الثقافة في مؤسّساته الرسمية، فذلك يعني أنّكَ تراهن على الأصعب، وهنا تكمن روح الأشياء، من هذا الرهان على الحرّية ومحاولة نزعها من قبضة تُحكِم إمساكها. لكن، رغم ذلك، تبقى محاولة جمع الأصدقاء السوريين والعرب لقراءة الشعر واستعادة بعض تفاصيل الملتقى خطوةً جميلةً وسط الأخبار السيئة التي تحيط بالسوريين أينما كانوا.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.