يوم واحد هو حكاياتنا البسيطة
يحكي المسلسل البريطاني "one day" (قُدّمت القصة فيلماً في عام 2011) الذي يعرض حاليا على منصّة نتفليكس قصّة الصديقين، إيما مورلي وديكستر مايهيو (يلعب دوريهما أمبيكا مود وليو وودال) اللذين يلتقيان أول مرّة في حفل التخرّج من الجامعة وينجذبان إلى بعضهما بعضاً، ويذهبان لقضاء الليلة معا، لكنهما يفضلان أن يبقيا صديقيْن مدى الحياة، ويتّفقان على اللقاء سنويا في اليوم. وفعلا يلتقيان كل عام في الموعد نفسه، ويتبادلان معا قصص حياتهما وما مرّ مع كل منهما من أحداثٍ مهمّة وسخيفة، وفي كل مرّةٍ يلتقيان يشعران بالانجذاب الأول نفسه، لكنهما مع ذلك يفضّلان أن يبقيا صديقين، فإيما تدرك أن ديكستر، الشاب الوسيم ابن العائلة الثرية، ليس جاهزاً لإقامة علاقة جدية طويلة، وديكستر يخاف أن يفقد إيما الشابّة المثقفة والثورية ذات الأصول الهندية والقادمة من بيئة متواضعة، لو دخلا في علاقة غرامية، فهو يعرف أنه ضعيف تجاه النساء وسيخونها في أقرب وقت.
مع ذلك لم يتمكّنا اثناهما من نسيان بعضهما بعضاً، رغم دخولهما في علاقاتٍ أخرى، وزواج ديكستر وإنجابه طفلة وطلاقه السريع. ورغم أن إيما دخلت في علاقات طويلة، إلا أن العاطفة التي يحتفظان بها كل في داخله تنتصر في النهاية على القرار العقلاني الذي اتخذاه ذات يوم فيتزوّجان، لينتهي المسلسل بموت إيما في حادثة سير سخيفة. وكأن صنّاع العمل قرّروا هذا الحلّ الدرامي، كي يتجنّب ديكستر العودة إلى عادته في الخيانة وإيذاء إيما. وهكذا بموت إيما تبقى نهاية ديكستر مفتوحة أمام خيال المشاهد. هل سيعاود مسيرته في العلاقات القصيرة أم سيعيش على ذكراها برفقة ابنته من زواجٍ سابقٍ فاشل؟ لن نعرف هذا أبداً، وليس مطلوبا أن نعرف. بالنسبة للمشاهد ينتهي العمل بموت إيما.
ينتمي العمل إلى النوع الرومانسي الخفيف، ويطرح أسئلةً كثيرة عن العلاقات البشرية، فديكستر الذي وجد كل شيء أمامه بسهولة بفضل والديه، ويبحث عن الشهرة بأسرع الطرق، ويغرق في إدمان الكحول والمخدّرات، سرعان ما يفقد كل شيء، بما في ذلك والدته التي كانت داعمة أولى له، تُصاب بالسرطان، ويتهرّب هو من رؤيتها والعناية بها في مرضها، ليعيش حياته تحت ضغط الإحساس بالذنب لما فعله، بينما تخطو إيما خطواتها نحو ما تريده لحياتها بهدوء، وتعاني من الفقر والفشل لتحقّق ما كانت تصبو إليه في النهاية، فتصبح كاتبة قصص أطفال مشهورة.
هذه كلها أفكار نمطية في الدراما الرومانسية التي قدّمت في كل العالم، لكنها مع ذلك تبدو شديدة الشبه بنا، بحكاية كلٍّ منّا مع نفسه ومع الآخرين، فنحن جميعا نملك حكاية من الحكايات التي قدّمها لنا المسلسل، حكاياتنا نحن البشر العاديين، حكاياتنا مع الحب والصداقة والفشل والنجاح والتعب والخوف والضمير والتحقّق والفقد والهوية والأفكار والقناعات والقرارات والمرض والموت والخسارة والربح والماضي والمستقبل والحاضر بكل تفاصيله التافهة والمهمّة والأسئلة الصغيرة والأخرى الوجودية؛ حكايات قد تبدو بالغة التفاهة أمام الأحداث المفصلية الكبرى التي تشكّل التاريخ وتكونه، لكن التاريخ بدون تفاصيل يومية لحياة البشر تحتمل الكذب والصدق، سيتحوّل إلى تاريخ ميت بعد حين. أما حكايات البشر ومكابداتهم فهي تفاصيل حيّة مثلهم، وهي التي تعطي للزمن قيمته. وبالنسبة لي، أفضل هذا النوع من الدراما، الدراما التي بلا بطولات وبلا أبطال، دراما الناس العادية بحكاياتها العادية اليومية التي تصنع حياة بأكملها.
قد يبدو أن السؤال الرئيسي في المسلسل هو سؤال الصداقة والحبّ، أيهما أهم وأيهما أكثر ديمومة؟ وهل يمكن أن تتحوّل الصداقة إلى حب حقيقي أم أن لحظة اللقاء الأولى هي التي تحدّد شكل العلاقة اللاحق مهما تم اتخاذه من قرارات بشأنها، خصوصا وأن مرحلة المسلسل من 1987 حتى 2007؟ وهذا سؤالٌ كان مطروحاً حقّاً لدى جيلنا في ذلك الوقت، ثم تجاوزته الأجيال الحالية التي لم تعد مشغولةً بأسئلة كهذه مع الانفتاح المهول في الخيارات الجنسية الشخصية. هذا السؤال هو الخيط الذي يُمسك المسلسل بينما تتفرّع منه خيوط أقوى لسرد حكايات أخرى قد تكون أكثر عمقاً وإنسانيةً وتأثيراً على المسارات الشخصية للأفراد وعلاقاتهم بالآخرين.