المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج.. ماذا بعد؟

11 مارس 2017
+ الخط -
ألقى المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج في إسطنبول (25 - 26 فبراير/ شباط 2017) حجراً في المياه الراكدة، وربما يسهم في حلحلة الوضع الخطير الذي تمرُّ به قضية فلسطين والمنطقة العربية حالياً.
وعلى الرغم من الجدل الفلسطيني الذي سبق انعقاده، وعلى الرغم من الانتقادات التي وجّهت لبيانه الختامي ولغته الخطابية، فإنه نجح، بالمعنى الوطني، في الجمع بين استحضار معانٍ بالغة الرمزية وإيجاد فرصة نادرة لحوار فلسطيني بينيّ، وهو حوار تشتدّ الحاجة إليه اليوم في ظروف تحمل نُذر تصفية القضية الوطنية الفلسطينية في ظلّ تحولات عالمية وإقليمية معقّدة. وعلى سبيل التفصيل، نجح هذا المؤتمر في الجوانب الآتية:
أولا، آلية الحوار البيني الفلسطيني مكسب لا شك فيه؛ فالحوار إضافة إلى النضال الوطني الجامع، بهدف اقتراح الحلول والبدائل التي تُخرج فلسطين من وضع الركود والتهميش الذي أدى الانقسام الفلسطيني (2007- 2017) إلى تعميقه. ثانيا، دفع قضية فلسطين إلى واجهة المشهد الإعلامي مكسب آخر، يجب استثماره بتعظيم حضور الشخصيات الوطنية الفعالة، وتدشين برامج عمل مستمرة، لكي تخلق حدثاً جماهيرياً يجذب أنظار الإعلام. ثالثا، توجيه الأنظار إلى فكرة "تجميع الإرادات وحشد الطاقات الفلسطينية"، و"بناء الديمقراطية من الأسفل، وتفعيل البعد المحلي الشعبي"، وحث فلسطينيي الخارج على أن يغادروا حالة الانتظار، ويعودوا إلى المشاركة في تقرير مصير قضيتهم الوطنية. وقد تم ذلك عبر تدشين موقع إلكتروني، لكي يسجّل الراغبون في الحضور أنفسهم طواعيةً، وكذا عبر تنظيم دوراتٍ تدريبية وورش عمل على هامش المؤتمر. والمقصد أن "دمقرطة" العمل الوطني الفلسطيني هدف استراتيجي وإنجاز كبير، يساعد على رفد ذلك العمل بالطاقات والدماء الجديدة والخبرات
المتنوّعة. رابعا، التركيز على الهوية الفلسطينية الجامعة، وتجاوز الروح الفصائلية، وعدم رفع أية أعلام فصائلية، والتذكير المتوازن بأسرى الحرية ورموز الشهداء، من دون تمييز بينهم.
وقد يكون أهم ما يحتاج إليه الشعب الفلسطيني حالياً هو التخلي عن الروح الفصائلية، والعودة إلى طرح وطني جامع وجذّاب يضم الكلّ الفلسطيني، في غزة، والضفة الغربية، وفلسطينيي 48، والخارج الفلسطيني، من دون تحيز لضلع واحد من أضلاع هذا المربع الوطني الذي يعجز كل ضلع فيه منفرداً أن يأتي بالحقوق الفلسطينية، لكن الأضلاع مجتمعة تستطيع أن تفعل الكثير. ويحتاج هذا الطرح الجامع إلى اجتهاد فكري وسياسي، حتى يمكن بلورته بمشاركة الجميع. خامسا، التأكيد على رمزية منظمة التحرير والتمسك بتجديدها وليس تجاوزها، ولا سيما عبر تفعيل المجلس الوطني الفلسطيني، وإنهاء تغييب المنظمة وتوظيفها موسمياً، لمصلحة السلطة الفلسطينية، وتصحيح العلاقة بينهما، بحيث تكون المنظمة مرجعية السلطة، وليس العكس.
وفي مقابل ما تقدّم من إيجابيات هذا المؤتمر، برزت فيه أوجه قصور ينبغي معالجتها، ومنها: أولا، اختلال معادلة الشيوخ والشباب في المؤتمر؛ فالكفّة كانت راجحة لمصلحة الشيوخ. وعلى الرغم من رمزية هؤلاء، وبعضهم ممن شارك في تأسيس منظمة التحرير، فإن إبراز الشباب كان سيوفّر مميزات الحيوية والفاعلية والنشاط. وعلى الرغم من أن المؤتمر رعى منصة شبابية "لمِّة"، وخصص ورشة بعنوان "تعزيز دور الشباب في مجالات العمل الفلسطيني في الخارج"، فذلك لم يكن كافياً، وكان أقل من توقعات الحضور الشبابي الكثيف. ثانيا، استئثار اللجنة التحضيرية (ضمت أكثر من 300 عضو) بإدارة أعمال المؤتمر، ثم اتخاذ القرارات، ثم صياغة البيان الختامي. ثم تحوّلت اللجنة إلى "هيئة المؤتمر"، من دون الرجوع بتاتاً لجمهور المؤتمر الذي فاق خمسة آلاف مشارك. وعلى الرغم من تقدير الاعتبارات اللوجستية والتنظيمية، كان ممكناً مثلاً، من باب تعزيز المشاركة وتشجيع ممارسة الديمقراطية، إجراء تصويتات أولية أو جزئية في نطاق هذا المؤتمر، على أي موضوع، من قبيل: المقر الدائم للمؤتمر، أو انتخاب بعض شخصياته القيادية سنة واحدة، أو بعض مفردات البيان الختامي.. إلخ.
ثالثا، غموض الخطوات المقبلة التي ستقوم بها هيئة المؤتمر، لكي تفرض وزن فلسطينيي
الخارج على أجهزة صنع القرار، وخصوصاً المجلس الوطني الفلسطيني، فلم يكن واضحاً كيف ستتم ترجمة هذا الزخم الجماهيري إلى وزن سياسي. وعلى الرغم من أهمية سعي المؤتمر إلى طرح قضية "التمثيل الفلسطيني"، ووقف تهميش فلسطينيي الخارج، فإن سؤال الكيفية بقي معلقاً من دون إجابات شافية. رابعا، كان خطاب المؤتمر ذا سقفٍ عالٍ، وكان يحاول تغطية حالة القلق على مصير فلسطين، بخطاب شعبي، لكنه لم يكن سياسياً في غالبه؛ فجاء خطاب مطلقات وثوابت، ولم يكن نسبياً يراعي المتغيرات الاستراتيجية الجديدة في المنطقة. ولا شك أن خطاب "فلسطين من البحر إلى النهر"، الذي تردّد في جنبات المؤتمر، يمكن أن تستغله الدعاية الصهيونية ضد فلسطينيي أوروبا أو أميركا اللاتينية، تحت دعاوى "التحريض على العنف، والسعي إلى إزالة إسرائيل وتدميرها".. إلخ. خامسا، غموض الصلة في المؤتمر بين عدة أمور: الإعلام والسياسة، البعد الشعبي والرسمي، كثافة الرسائل الرمزية وغياب الطرح السياسي المتجدّد. سادسا، عدم التوازن في خطاب النقد السياسي الذي وجّهه المؤتمر للسلطة الفلسطينية، وتحميل اتفاقات أوسلو وفريق الرئيس محمود عباس كل المسؤولية عن مأزق المشروع الوطني الفلسطيني. والحقيقة أن حركة حماس تتحمل أيضاً جزءاً من المسؤولية عن هذا المأزق، كونها تتولّى السلطة في غزة منذ ربيع عام 2006، وأسهمت، عبر علاقاتها بالمحور الإيراني- السوري، في تكريس الانقسام الفلسطيني، ولا يزال فريقٌ من قيادات حماس يراهن على الدعم العسكري الإيراني، ويواصل الإشادة بدورها في كل وقت وحين، على الرغم من سياسة طهران المعادية بوضوح للثورات العربية، ولا سيما الثورة السورية. والمقصد هو أهمية أن يكون الخطاب متوازناً في طرح مسؤولية القيادة عن المأزق الفلسطيني الراهن؛ فلا شك أن قيادة حركة فتح ارتكبت أخطاء جسيمة، خصوصاً بانحيازها لمشروع أوسلو، لكن قيادات الفصائل الأخرى ليست بلا أخطاء كذلك.
واختصاراً، تغلّبت الأبعاد الاحتفالية والشعبية والإعلامية في المؤتمر، على الأبعاد السياسية والاستراتيجية والرؤيوية؛ فلم يرقَ، في رأي منتقديه، إلى مستوى الاستجابة لتحديات اللحظة الفلسطينية الراهنة؛ فالحكم على المؤتمر يتعلق بسؤال "ماذا بعده؟"، وكيف يمكن تدشين حوار وطني فلسطيني، يؤسّس لتفعيل مؤسسات منظمة التحرير؟
وعلى الرغم من أن إيجابيات ذلك المؤتمر فاقت بكثير سلبياته، لا يبدو الحكم عليه سهلاً، فالأمر مرهون بتداعياته، وما سيقوم به منظّموه من جهد لاحق، ودرجة تجاوب فلسطينيي الخارج مع أطروحاته، وما إذا كان سيوسّع فرص الحوار الفلسطيني، ويؤدي إلى دمقرطة العمل الوطني أم لا.
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل