09 نوفمبر 2024
الثورة والحرية والانفلات
آلت حادثة استاد بورسعيد الأليمة التي وقعت قبل خمس سنوات، عقب مباراة كرة قدم بين فريقي الأهلي والمصري، في الدوري المصري العام 2012، وراح ضحيتها يومها 74 قتيلاً وأكثر من 200 جريح، معظمهم من القاهريين الذين تعرّضوا لضرب مبرّح بآلات حادة استهدفت منطقة الرأس خصوصا، آلت إلى تأييد الحكم بإعدام عشرة من المدانين، ليقفل ملف واحدةٍ من الأحداث ذات المعنى التي وقعت بعد قليل فقط من نجاح ثورة 25 يناير المصرية في إطاحة نظام حسني مبارك.
والمعنى الذي انطوت عليه تلك الحادثة الأليمة أنها نموذج لمعنى "الحرية غير المسؤولة" لدى مجتمعات تتحرّر من سجانيها، من دون أن تكون عرفت ممارسة الحرية من قبل، ولم تفهمها إلا انفلاتاً من القانون، وتخريباً للنظام العام، والممتلكات العامة، والمال العام، والحريّة العامة، وكل ما هو "عامّ" لا صاحب معروفاً له. فتكون مثل تلك الحوادث مؤشراً على المآلات النهائية التي ستصل إليها الثورات برمتها حكماً، ما لم تتدارك أمرها ومسارها.
مثل تلك الحادثة الأليمة هو ما سيترافق بالضرورة مع كل ثورةٍ يقوم بها مناضلون يحملون مشاعر نبيلة، ويقدّمون تضحيات نبيلة، ليوفروا لأوطانهم ما يساعدها على تحقيق أحلامها النبيلة، ما دامت الثورات لا تتوفر على آلياتٍ كافيةٍ لفرز الأغلبية التي تحمل مشاعر نبيلة، عن الأقلية التي تحمل عكسها، وتعيث فساداً في الأوطان، قبل الثورة وبعدها، وفي ظل أي نظام سياسي قائم، سواء بالقتل وسفك الدماء، أو بالسرقة والتخريب وتهديد السلم العام، مدفوعة بتعريف يعتبر انتهاك القانون بطولة وشجاعة.
وستظل تلك "الأقليات" بمثابة جراح غائرة في أجساد الثورات الطاهرة، لأنها جراحٌ لكل زمان، ما لم تلتفت الثورات إليها، وتدرك أن عليها التخلص منها، بعد فرزها وتعريفها.
لكن ما كان وقع منذ تلك الحادثة، وما يزال شيء منه مستمراً حتى بعد النطق بأحكامها النهائية، هو الميل إلى اعتبار أن الحادثة نتجت عن تدبيرٍ مسبق، استهدف مشجعي النادي الأهلي بسبب مواقفهم المساندة للثورة يومها، وسيقت لإثبات ذلك أدلة عدة: أن الشرطة وقفت موقف المتفرّج، وأن بوابات الاستاد المخصصة لمشجعي الأهلي لم تُفتح مباشرة، وأن مدير أمن بورسعيد غاب عمداً عن المباراة، وغير ذلك من براهين يلزمها، لو كانت صحيحةً، أن يتآمر مئات من الناس لتنفيذ الحادثة، ويتكتموا على سر خطير كهذا، وهو ما لا يمكن أن يقبله عقل أو منطق.
ربما تكون الحادثة وقعت نتيجة مشاعر ثأرية موجودة سابقاً في النفوس، وجدت مجالاً للتنفيس عنها على أيدي فئاتٍ غوغائيةٍ تحركها العصبيات، ليس غريباً أن توجد في ملاعب كرة القدم، بعد أن زادت درجة الاحتقان يومها نتيجة مشاحناتٍ ومصادماتٍ وقعت قبل المباراة وفي أثنائها، خصوصا بعد رفع يافطات حملت عباراتٍ اعتبرها البورسعيديون مسيئة لـ"رجولتهم"، بحسب ما قيل يومها في شرح ما حدث داخل الاستاد.
والحال أن علينا الاعتراف، بعد كل ما جرى مع الثورة المصرية النبيلة منذ اندلاعها قبل ست سنوات، أن الوصول إلى الحرية المسؤولة التي يحميها القانون، أو بكلماتٍ أخرى: نجاح الثورات في تحقيق الحريات الحقيقية لن يكون ممكناً قبل انتشار ثقافة احترام القانون، لأن ثمة في مجتمعاتنا التي لم تعبر سياقاً تاريخياً موضوعياً نحو الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، أقلية كبيرة (!) لا تفهم أن الحرية لا تشمل ممارساتٍ ما قبل مدنيّة، مثل الثأر، والعصبية المناطقية.
وهذا، بالطبع، يستوجب مغادرة "نظرية المؤامرة" التي تنسب كل حادثةٍ همجية لكائنات وهمية لا وجود لها، حاكت مؤامراتٍ لا مجال موضوعياً لها، ومواجهة حقيقة ما هو موجود فعلاً في ثقافة المجتمعات وسلوكها. علينا اليوم، وبعد كل ما جرى، أن نبصر الحقيقة: من الطبيعي فشل كل ثورة، لم تتكرس قبلها ثقافة احترام القانون.