إذا كانت مصر دولة قانون لماذا هذا حالها؟

19 فبراير 2017
+ الخط -
في فترة السجن، كنت شبه منعزل عن الأخبار الحقيقية، وكل ما يدور خارج أسوار السجن غير مسموح، إلا بالأخبار من المصادر الحكومية، وبالتالي، كل الأخبار تتحدث عن الإنجازات الجبارة والأسطورية وغير المسبوقة، والأخبار المتوالية عن الرخاء والخروج من عنق الزجاجة وعن الأمن والأمان والانضباط منقطع النظير في الشارع المصري.
بصراحة، كنت على وشك تصديق هذا الهراء، فكما يقول المثل المصري "الزّن على الودان أمرّ من السحر"، أي أن تأثير الإلحاح والتكرار، طول الوقت بدون كلل أو ملل، قد يكون أشد من السحر، فسألت نفسي في أحد الأوقات: هل صحيح أنه يمكن أن يكون ما يحدث في مصر خالف كل توقعاتي وتوقعات كثيرين، وخالف كل النظريات الأكاديمية التي تربط التقدم بالديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة شرطاً أساسياً. هل من الممكن أن تكون حدثت معجزة تخالف أو تخترق أو تتجاوز العلم والقواعد الهندسية والصناعية والتجارية عن التخطيط السليم واهمية الخطط الشاملة والإطار العام ودراسات الجدوى، هل من الممكن أن يؤدي ما يحدث في مصر إلى صياغة نظرية جديدة، تثبت أن الفساد والاستبداد والقمع والصوت الواحد، إذا تم خلطهم مع الفشل الإداري والتخبط وغياب التخطيط، قد يؤدون إلى نهضة وتنمية وأمن وأمان ومشروعات كبرى ومعجزات؟ هل يمكن أن يؤدي عدم احترام الرئيس ونظامه وحكومته القانون والدستور إلى تأسيس دولة قانون وحكم عادل وحكم رشيد؟ هل تتحقق معجزة بدون أي أساس، وخلافا للجغرافيا والتاريخ والمنطق والعلم؟ كيف؟
ولكن، كنت عرفت الإجابة في الثانية الأولى بعد الخروج من السجن، فمن شباك سيارة الترحيلات تجد الإجابة، الشوارع لم تصبح الشوارع نفسها.. بل أسوأ بكثير.
صدقاً، كنت أتمنى أن أُفاجأ بأن حال الشوارع أحسن، فوسائل الإعلام تتحدث، طوال الوقت،
عن شبكة الطرق الجديدة الإعجازية، والتي يقال إنه ليس لها مثيل في العالم، وكيف أن هذه الشبكة الجديدة تمثل المعنى الحقيقي للتقدم والتحضر، وأنها تغنينا عن كل شيء في الدنيا.
صدقاً، كنت أتمنى أن أُفاجأ بحالة النظافة في الشوارع، فتفعيل منظومة جديدة لجمع القمامة وتدويرها، والاستفادة من كل المكونات، "حتى العضوية منها"، ليس أمراً معجزاً أو خارقاً. يتطلب الأمر دراسة وتخطيطا ونظاما وتطبيقا ومرونة، وهناك عشرات المشروعات والأفكار الجديدة التي أثبتت نجاحا منقطع النظير في العالم كله، لكنها عبادة اللوائح وعشق أصنام الممارسات القديمة والتعقيدات الإدارية التي وجدنا عليها آباءنا.
كنت أتمنى أن يخذلني عبد الفتاح السيسي، ويخيب توقعاتي التي أعلنتها قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية، بأنه سوف يعيد إنتاج منظومة الفشل والتخلف والفساد والاستبداد نفسها، كم كنت أتمنى أن يفاجئني بأن تكون مصر دولة قانون فعلاً ليس قولاً.
إذا أردت أن تعرف معنى تقدم بلد ما، ومعنى احترامه القانون، فانظر إلى شوارعه. ولكن في مصر، هناك سباق دائم لخرق القانون، فالسلطة وأجهزتها هي السبّاقة دائما، وهي التي تضرب المثل في كيفية خرق القانون الذي تم وضعه، ففي مصر يوضع القانون، ومعه ثغراته وكيفية اختراقه من أولي الأمر، ومن الأجهزة التي يفترض أنها من تطبق القانون. ولذلك، لا عجب أن يسير المواطنون على خطى حكامهم، وأن ترى هذا السباق المحموم بين المواطنين لخرق القانون، فمع تتابع أنظمة حكم على مصر لا تحترم دستورا أو قانونا، أصبح المواطن البطل/الذكي - أو المفتّح/ المدردح، كما يقال في اللهجة العامية المصرية، هو الأكثر التفافا ومراوغة أمام القانون.
وهذا ما نراه من فوضى وبلطجة في الشارع المصري، في المرور والنظافة واشتراطات البناء وفي الصناعة والتجارة وفي التعليم وفي الأمن والأمان وتطبيق القانون وكل شيء، فالدولة التي تصنع قوانين، بهدف امتصاص الغضب، في أثناء إحدى الأزمات أو الكوارث أو بهدف تطبيقه على فئةٍ ما من دون فئاتٍ أخرى، أو بهدف استثناء فئةٍ ما من التطبيق، وتمييزها عن الآخرين، أو بهدف تقنين الفساد، أو بهدف تقنين القمع، لن تستطيع بالطبع تطبيقه بشكل جدّي طوال الوقت. وبالتالي، يطبح تطبيق القانون الاستثناء، ويصبح خرق القانون والالتفاف عليه هو القاعدة، حكومة وشعبا.
فتطبيق القانون في مصر، لو نتذكّر، يقترن دوما بالأزمات والكوارث، بشكل موسمي، وإن تم تطبيقه، فيكون برعونة وحماقة وعشوائية تزيد الأمور تعقيدا، وتزيد من النفور من الالتزام بالقانون. وعموما لا يتم تذكر القانون واللوائح والقواعد والاشتراطات، إلا بعد وقوع الكارثة، لا يتم تذكر قوانين المرور، إلا بعد مقتل المئات، في حوادث المرور الناتجة عن غياب القانون، ولا يتم تذكر تراخيص المقاهي، إلا بعد مقتل أحد الشباب من بلطجية يديرون مقهى بدون ترخيص، تم السماح بفتحه عن طريق الرشاوى، مثل آلاف المقاهي المخالفة أو غير المرخصة في مصر.
لدينا بالطبع أجهزة أمنية، تفخر بأنها تسمع "دبة النملة قبل أن تدبها"، وتستطيع إفشال تحركات المعارضة، قبل أن تفكر في التحرك، وتستطيع إبطال المؤامرات الدولية، قبل التخطيط لها. ولكن، في الوقت نفسه، تعجز عن تطبيق أي قانون في مصر، إلا قانون التظاهر بالطبع. إنها
أجهزة أمنية تراقب معدلات الشهيق والزفير للنشطاء السياسيين، وكل من له رأي معارض، وتدّعي أنها تعلم ما يدور في الأنفس وما تخفي الصدور، وتتذرّع بالقانون، من أجل مزيد من القمع والسيطرة والحبس والتنكيل، ولكن هذه الأجهزة نفسها عاجزة عن تطبيق القانون أمام البلطجية وقطاع الطرق ومافيا البناء المخالف والأنشطة التجارية والصناعية والزراعية المخالفة، لأنها تتخاذل في تطبيق القانون على نفسها، رئيساً وحكومة وبرلماناً وأجهزة أمنية فوق القانون وفوق المحاسبة، وعلى ضباط الشرطة الذين يتجاوزون، والذين يستخدمون التعذيب من أجل الحصول على المعلومة، وعلى الأجهزة الأمنية التي تتنصت على المواطنين بطريقة غير شرعية وغير قانونية، وعلى مذيعين يقتطعون عباراتٍ من سياق مكالمات بعض المعارضين والنشطاء، لتُعاد إذاعتها، مخالفة للدستور والقانون، بمعنى آخر مخالف تماما للمقصد والسياق الأصلي.
هل هذا ما يطلق عليه "الحفاظ على الدولة". إنه الشعار الذي أطلقه رئيس الجمهورية المصري الحالي في حملته الانتخابية منذ ثلاث سنوات، عندما كان يتم سؤاله عن برنامجه وخطته، لكنه لم يوضح وقتها أنه كان يقصد "الحفاظ على الدولة الفاشلة"، أو أنه كان يقصد "الحفاظ على عشوائية الدولة" و"الحفاظ على كل سلبيات ومشكلات الطريقة القديمة لإدارة الدولة"، وهذا ما يفسر الاستعانة بكل الطاقم القديم وكل الكهنة الذين أفسدوا مصر في عهد حسني مبارك، وهذا ما يفسر استخدام الأساليب الفاشلة نفسها التي تسببت في خروج الجماهير ضد مبارك.
لو كان هناك دولة قانون كما يزعمون، لما كان أبواق السلطة وكلاب الحاكم يستطيعون استخدام الإعلام في الكذب والتضليل والتشويه والتخوين والخوض في الأعراض. لما كان هناك إعلاميون، مثل أحمد موسى وعبد الرحيم علي، أو نواب برلمان مثل مرتضى منصور ومصطفى بكري، يستطيعون بث كل هذه الشائعات والهراء حول المؤامرات والتمويل الأجنبي، وما كانوا يستطيعون التحريض علنا على قتلنا وإيذائنا وإيذاء أهالينا في الشوارع، وهو ما يحدث أحيانا للأسف على يد بلطجيةٍ، أو حتى على يد مواطنين بسطاء، متأثرين بخطاب أبواق السلطة المليئة بالكراهية والشائعات والتحريض ضد كل من له رأي معارض.
لا تتعجب أن هناك سباقا في الشارع المصري من أجل الالتفاف على القوانين أو البحث عن "واسطة" أو ذوي النفوذ من أجل الحصول على الحقوق، أو ما هو خارج الحقوق، فإن كان رب البيت بالدف ضاربا، وإن كانت مصر دولة قانون، وفيها سلطات تحترم الدستور والقانون، ما كان هذا هو حال مصر.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017