هذا الإرهاب الكروي
سوف يتهمونك بانعدام الوطنية، ويعتبرونك من القلة المندسة، والخونة، لأنك لم تشاركهم الرقص والطبل في الحفل الماجن الذي أقاموه أمس، لمناسبة مباراة في كرة القدم بين الفريق المصري ونظيره الكونغولي.
ستجد نفسك غريباً ومنبوذاً، لأنك لم تتفاعل، بالقدر الكافي، مع هذه اللوثة التي اختطفت كرة القدم من كونها لعبة شعبية من أجل متعة الجماهير، إلى ممارسة سياسية لخدمة سلطةٍ تحتقر الجماهير وتذيقهم العذاب.
أنت أمام إعصار من الإرهاب الكروي، صنعته سلطة تهين الوطن، وتذله وتبتذله كل يوم، ثم تفرض عليك نوعاً من الوطنية الرخيصة، المزيفة، باعتبارها معياراً وحيداً للصلاحية والجدارة بالانتماء للبلد. وهنا، يصبح مفروضاً عليك أن تنسى قوافل الشهداء الذين قتلتهم السلطة في ملاعب الكرة وميادين التظاهر وساحات الحرم الجامعي، وآلاف الضحايا الذين يقبعون في زنازين، تشبه القبور، لا تبتعد كثيراً عن مدرجات ملاعب اللوثة الوطنية.
عليك أن تغضّ الطرف عن أن السلطة التي فرّطت في حبات تراب الوطن، ورأت في اعتراضك على تلك الصفقة خيانةً وعمالةً وخدشاً لمعنى الوطنية، هي ذاتها السلطة التي تعتبر التفريط في مبارة كرة قدم كارثة قومية، وترى في امتناعك عن تشجيع الفريق خيانة للوطن.
أنت أمام سيناريو واحد للابتزاز والإرهاب باسم الكرة، لم تتغير تفاصيله، ولم تتبدل وجوه الممثلين، من أيام منتخب علاء وجمال مبارك، إلى منتخب عبد الفتاح السيسي، دورك الوحيد فيه أن تشجع وتطبل وتزمر، لكي تفرح السلطة بإنجاز وهمي جديد.. وظيفتك أن تهلل، أو أن ترسل أبناءك للتشجيع، فيقتلون في المدرجات، أو يعودون منها إلى السجن.
هو منتخب السلطة التي تهبط على مشهد الفوز فور صافرة نهاية المواجهة، فيصبح العنوان الأوحد: إنجاز جديد وعبور جديد بقيادة الزعيم.
شيء من هذا جرى في مناسباتٍ عدة، ربطوا فيها بين معارك الوطن الحقيقية ومباريات الكرة، فابتذلوا معاني الانتصار، كما حدث في مثل هذه الأيام قبل تسع سنوات في مباراة لمنتخب الشباب ضد كوستاريكا، ووقتها قلت إننا نبتذل معانى انتصار أكتوبر العظيم، ونهين ذكرى العبور، حين نقحمه عنوة فى معارك صغيرة وقضايا تافهة من عينة مباريات منتخبٍ أو منافسة على لقب مطرب الشباب، أو ما إلى ذلك من أمور نتلهى بها، أو يراد إلهاؤنا بها عن مشكلاتنا وقضايانا الحقيقية.
وتكرّر الشيء نفسه مطلع 2017 في مباراة نهائي البطولة الأفريقية أمام الكاميرون، ودونت وقتها:
لقد أعلنوا التعبئة العامة في مصر، قبل بدء المباراة، وصدّروا للناس أن الوطن في حالة حرب، ومن لا يصفق يجرّدوه من وطنيته، إذ حضرت السلطة بكل أفرعها وأذرعها، من الإعلام إلى البرلمان، تعلن النفير العام، وتحشد الناس خلف القائد، المهزوم سياسياً وأخلاقياً، والباحث عن التعويض، بأقدام اللاعبين في المستطيل الأخضر.
وهكذا تحولت القضية إلى مهرجانٍ مبتذل للوطنية الماجنة، انتقل من السلطة إلى المعارضة التي وجدت نفسها مسحوبة خلف دخان الابتزاز المتصاعد، من مراجل الوطنية المزيفة، فوجدنا سياسيين معارضين يزايدون على أهل الحكم في اختزال الموضوع الوطني كله بتسعين دقيقة من اللعب، وتعليق قيمة الوطنية بأقدام أحد عشر لاعباً، يشقون ويكدحون من أجل جنرال جائع لانتصار خادع.
مرة أخرى، يصنعون حالةً من الاستقطاب الرياضي المخيف، فرضها أهل الحكم في مصر، من خلال ممارسة أبشع أنواع الإرهاب الكروي، قسمت الناس إلى فريقين: الأول يتراقص بمجون ويشجع بكل الهوس، على إيقاعات الإعلام الرسمي، وفريق آخر، ألقت به الهستيريا على شواطئ تمني ألا يفوز الفريق المصري، كي لا يسجل الانتصار باسم السلطة، وبينهما فريق ثالث يتفرج على الملهاة/ المأساة بحيادية، لم تكن موجودة في مناسبات مماثلة سبقت.
وأكرّر أنه في الدول المنكوبة بالطغاة، يعرق اللاعبون، وتشجع الجماهير، حد الموت، وتحتسب النتائج لمصلحة السلطة الحاكمة.