زيت وزيتون وغضب في تونس

29 أكتوبر 2017

تونسية تقطف الزيتون قرب تونس (24/12/2009/فرانس برس)

+ الخط -
تتالت، في الأسابيع الفارطة، تصريحات وزراء حكومة الوحدة الوطنية في تونس، التي لم تكن موفقةً، أو على الأصح لم تكن دقيقة بالشكل الكافي، في بلد تفيض فيه حريات التعبير إلى حد الفوضى، ويتربص الإعلام وعموم الموطنين بتلك الزلات، أو العثرات، لتكون مادة للنقد والسخرية، فلقد اقترحت وزيرة المرأة والطفولة والأسرة، مثلا، في الأيام القليلة الفارطة، في معرض حديثها عن الصعود اللافت لموجات الهجرة السرية، والتي تنعت، في دول المغرب العربي، بـ"الحرقة"، اقترحت على العائلات تعليم أبنائها قواعد اليوغا والتدرب عليها، حتى يقلعوا عن هذه الظاهرة، ما أثار عاصفة من التعليقات المتهكمة، وحتى الغاضبة، على الوزيرة. وحفلت مواقع التواصل الاجتماعي بسيل من السخريات التي تتهم الوزيرة بالنظر إلى الأشياء من كوة برج عاج بينه وبين معاش التونسيين سنوات ضوئية، فكأن الوزيرة تعيش في كوكب آخر لا علاقة له بكوكب الفقراء والمهمّشين الذين يركبون قوارب الموت باتجاه الشواطئ الأوروبية. فكيف لهم أن يتدربوا على اليوغا، وهي ممارسة ظلت سنوات عديدة محصورة في فئات مرفهة، فضلا على أنه لا علاج للهجرة السرية، حسب اعتقادهم، سوى التشغيل اللائق الذي يحفظ كرامة أبنائهم والتنمية العادلة التي تقطع مع الاحتقار والإقصاء الذي عانوا منه طويلا.
ما كادت هذه العاصفة تهدأ، حتى وقع وزير الفلاحة تقريبا في المطب نفسه، ففي لقاء إذاعي عن موسم جني الزيتون الذي ينطلق بعد أيام، أجاب على سؤال بشأن بتقديراته السعر المتوقع للتر الزيت، في ظل إشاعات عن ارتفاعه الكبير، على الرغم من إنتاج قياسي هذا الموسم، فاستعرض الوزير جل البراهين التي تبرّر ارتفاعا متوقعا، من قبيل تراجع الإنتاج لدى إسبانيا، المنافس التقليدي لتونس، وارتفاع أسعار الزيت عالميا، فضلا عن تقهقر قيمة الدينار، ودخول الزيت عادة غذائية لدى مجتمعاتٍ عديدة لم تكن تستعمله سابقا. وأضاف الوزير في الختام، وحتى يهون على التونسيين أمر ارتفاع السعر المتوقع، إنه ليس من عادة التونسي استهلاك زيت الزيتون.
وللأمانة، عدّد وزير الفلاحة سياقاتٍ تستقبل فيها البلاد هذه السنة موسم جني الزيتون،
 خصوصا وقد ترافق هذا الموسم مع إنتاج قياسي أيضا من التمور، ما سيمكن تونس من تدارك عجز مستفحل لسنوات في الميزان التجاري، وتراجع مخزون البلاد من العملة الصعبة.
قد يبلغ سعر اللتر من زيت الزيتون 14 دينارا (6 دولارات)، وهو ثمن كبير مقارنة مع وفرة الإنتاج وتراجع المقدرة الشرائية للمواطن. لم يكن الوزير يقصد، بلا شك، بالعادات الممارسات التاريخية التي تبناها الأجداد، ورسخوها عبر قرون بل آلاف عديدة، تشهد على ذلك أشجار معمرة ومعاصر زيتون تعود إلى ما قبل العهد الروماني.. إلخ، وإنما العادات المستحدثة التي شاعت في العقود الثلاثة الأخيرة، فالممارسات الغذائية للتونسيين، تثبت تراجع الإقبال على هذا الزيت، نتيجة التفقير المتواصل للطبقات الشعبية، وحتى الوسطى، ما حصر استهلاك الزيت في الطبقات المرفّهة، وهي تحولات عميقة في السلوك الاستهلاكي للتونسيين عموما، بمقتضى تنامي استهلاك الزيوت النباتية التي لم يكن التونسي يعرفها سابقا، كما أن الممارسات الغذائية لمختلف الفئات الاجتماعية تغيرت كثيرا، ولم تعد مائدة العائلة تجمع الأفراد في النهار، بحكم ممارسات غذائية متزايدة خارج المنزل، نتيجة عمل الزوجين ودراسة الأبناء.. إلخ. ويطلق التونسيون على ذلك لفظ "أكلة الشارع"، أي التي تعدها مطاعم الوجبات السريعة أو الشعبية التي تردادها فئات العمال وصغار الموظفين. وكانت في الأشهر الأخيرة موضوع تجاوزات كثيرة خطيرة كشفها الإعلام.
تؤكد المؤشرات التي تنشرها الصحف والمواقع الإلكترونية المختصة لمنظمات دولية، مرجعية في مجال زيت الزيتون، أن استهلاك التونسي لا يتناسب مع إنتاج بلاده من هذه المادة، فإذا كانت الإحصائيات نفسها تعطي تونس المرتبة الثانية في إنتاج زيت الزيتون على المستوى العالمي، فإن المصادر نفسها تجعل التونسي يحتل مرتبة متأخرة في استهلاك زيت الزيتون، إذ يبين المعهد الوطني للاستهلاك أن استهلاك الفرد في تونس من مادة زيت الزيتون لا تتجاوز
سبع لترات في السنة الواحدة، وهو كمية هزيلة، بالمقارنة مع المواطن اليوناني أو الإسباني أو الإيطالي (ثلاثة أضعاف أحيانا)، بل مقارنة حتى مع مواطنين ينتمون إلى بلدان لا تنتج زيت الزيتون أصلا. ولا يتعلق الأمر بزيت الزيتون فحسب، بل بتراجع مفزع لاستهلاك التونسي من منتوجات غذائية، عرفت بها بلاده، على غرار التمور وكثير من الخضروات والفواكه.
حتى يمكن لنا فهم هذه المفارقة، نجد أنفسنا أمم ثلاث فرضيات متضافرة، تقول الأولى بغلاء الأسعار، خصوصا في السنوات الأخيرة التي فقدت الدولة فيها هيبتها، وعجزت عن فرض الرقابة على سلسلة حلقات إنتاج تلك المواد، إذ فرض الوسطاء والسماسرة الأسعار التي شاءوا، بشتى أنواع المضاربة والاحتكار، فكان الفلاح ضحية هذه الحلقة الجهنمية من الاستغلال، خصوصا وأن التهريب قد شمل تلك المنتوجات التي توجهت نحو الأسواق الليبية والجزائرية. أما الفرضية الثانية، فهي دخول زيوت نباتية لم تكن معروفة في السوق التونسية، تقدم في الفضاءات التجارية بأسعار تظل، على الرغم من ارتفاعها، أدنى من سعر زيت الزيتون. وأخيرا، فإن الفرضية الثالثة لهذا العزوف المتواصل عن استهلاك زيت الزيتون هي الممارسات الغذائية الحديثة التي فكّكت تدريجيا الاقتصاد المنزلي، وربطته مباشرة بالسوق.
يقول التونسيون، في سخرية مريرة، إن لهم جامعا معمورا يسمى جامع الزيتونة، وبنكا إسلاميا يسمى بنك الزيتونة، وإذاعة عمومية تسمى إذاعة الزيتونة، وهي مخصصة للقرآن الكريم، ولهم ما يقارب ثمانين مليون شجرة زيتون. ومع ذلك، ليس لهم لترات قليلة من هذا الزيت يأكلون به خبزهم الذي عرفوا به في البحر الأبيض المتوسط.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.