إسرائيل تعيد كتابة تاريخنا
كل الأمم تفتش في تاريخها عن لحظات، تسميها انتصاراتٍ، وتحتفل بها، لكننا بارعون في التفتيش عن هزائم في سجلنا، فإن لم نجد حولنا ما نعتبرها انتصاراتٍ إلى انكسارات وهزائم.
تشتعل رغبات الانتحار التاريخي المجنونة، كلما اقتربت ذكرى معركة أكتوبر/ تشرين أول 1973، إذ تبدأ عمليات إشعال الحرائق في الماضي، من أجل ولائم الاستقطاب والكيد السياسي في الحاضر.
يجيد الصهاينة قراءة الذات العربية بمهارة شديدة، فيقدمون في كل عام ما لذ وطاب من أطباق حرّاقة وساخنة، يتحلق حولها المسكونون بهلاوس الانتقام من التاريخ، بتحويله إلى كهوف مظلمة، لا نقطة ضوء فيها، فرحين بما يشبع جوعهم إلى الاحتراب الذاتي.
هذا العام، تطرح دوائر الميديا الإسرائيلية أحدث منتجاتها من فواتح الشهية لتسويد صفحات التاريخ القريب وتزفيتها: هذه المرة يقدم الإعلام العبري وجبة مليئة بالتوابل، ترضي ذوق الجمهور المتحفز لالتهام ما تبقى من صفحات مضيئة في أرشيف انتصاراته، جاسوس مصري جديد ساعد الإسرائيليين في حرب 1973، لكنه ليس مثل أشرف مروان، زوج بنت جمال عبد الناصر، وفتى أنور السادات المقرب، هذه المرة جاسوس من الوزن الأثقل، والحجم الأكبر، لم يُكشَف عن اسمه بالطبع، كي تبقى الإثارة حاضرة، وموائد نهش اللحوم ونبش القبور ممتدة.
هم، الصهاينة، بعد أن تحقق لهم تغيير جغرافيتنا، وترسيم حدودنا، وتخطيط مسار علاقاتنا، جاء الوقت ليصيغوا حكاياتنا، ويكتبوا تاريخنا، بالعبرية الصريحة، فيبتهج الذين يبحثون عما يدعم حواديت الدراما السوداء، أيما بهجة، ويواصلون استمتاعهم بافتراس الماضي، فيستحيل النصر هزيمة، وتتحول دماء شهداء الحروب إلى عبواتٍ من"الكاتشب" تعطي وجباتهم نكهة مختلفة.
معركة أكتوبر تمثيلية، والعبور لم يحدث، والنصر لم يتحقق، بل كان هزيمة ساحقة، والعلم لم يرتفع، وبيوت الجنود الفقراء لم تتزين حوائطها بالفخر بحكايات الشهداء، وبطولات العائدين بالنصر، هكذا يتماهى النابشون في صفائح قمامة التاريخ مع السردية الإسرائيلية له، أو بالأحرى تتعانق الأهداف والرغبات، نكاية في"العسكر"!
إذ نحن أمة لا تصلح إلا للهزائم، ولا تعرف إلا الموسيقات الجنائزية، معاركها أوهام وانتصاراتها أكاذيب، هكذا تريد إسرائيل، فينعق الناعقون لبيك يا موساد، ويغطسون في الأرشيف، بحثاً عما يسند رواية الصهاينة.
في هذا الطقس الانتحاري المجنون، تصبح بطولات الفدائيين ضد الاحتلال في أربعينيات القرن الماضي أعمالاً إرهابية، وليست بطولات مقاومة، كل ذلك لأن مرشد الإخوان الراحل محمد مهدي عاكف كان من أبطالها.
وفي المقابل، كانت حرب الاستنزاف وهماً، لأن عملياتها انطلقت بأمر جمال عبد الناصر، وحرب 1973 كانت تمثيلية كاذبة، لأن الذين خاضوها من الجنود والقادة من جيل الستينيات، فضلاً عن أنهم من "العسكر". وبما أن الناعقين في عداء مع عسكر هذه الأيام، فلا بأس من أن تكون حربهم ضد"العسكرية" بإطلاق، لا فرق بين محارب جسور من أجل تحرير في أكتوبر/ تشرين 1973 وجنرال يقتل من أجل توسعة استثماراته، ويتنازل عن الأرض، ويقدم نفسه متطوعاً من أجل أمان شعب إسرائيل.
هنا يبقى تصور قدرة فصيل على استئصال آخر من مكونات هذه الأمة ضربا من المستحيلات والأوهام، ونوعاً من الانتحار العبثي، معه يصبح الصمت على هذه النزعة الاستئصالية لدى هذا الطرف أو ذاك جريمة، كما أن الاستسلام لهذه الرغبات المجنونة إعلاناً للموت، وإذعاناً للأعداء وهم يكتبون تاريخنا، ويختارون لنا حروبنا الذاتية، يعاونهم في ذلك أشخاص محسوبون معنا.