البرادعي و"كامب ديفيد" وأجمل الأكاذيب
جديد محمد البرادعي في حواره لتلفزيون العربي هو رؤيته وموقفه، الصريح، من "كامب ديفيد" وجنايتها على مصر، والوطن العربي.
كان مما يؤحذ على البرادعي أنه بدا وكأنه غير منخرط في القضية الفلسطينية، بما يكفي، وغير متداخلٍ مع موضوع الصراع العربي الإسرائيلي، على النحو الذي يتناسب مع كونها القضية الأولى، والأهم، في حياة العرب.
يقول البرادعي، في الحلقة الأولى من حواره، والتي أذيعت أمس، إن "كامب ديفيد" أخرجت مصر من العالم العربي 10 سنوات. ويضيف عن مصر "عمرها ما رجعت كجزء وقلب للعالم العربي، بل فتحت الباب لإسرائيل أن تعربد في المنطقة في الضفة وجنوب لبنان، ومصر كانت رمانة الميزان، والمحصلة أنها انتهت بينما القضية الفلسطينية أصبحت سراباً".
منذ ظهر البرادعي على الساحة السياسية، قبل ثماني سنوات، كان يمر، خفيفاً بأكثر مما يجب، على موضوعات التطبيع والعلاقات الرسمية، المشينة، بين السلطة المصرية والكيان الصهيوني، إلى الحد الذي أوجد تصوراً بأن الرجل غير مهتم بهذه الأمور.
وبعد الانقلاب الذي قاده عبد الفتاح السيسي على الحكم المنتخب، أثارت الإذاعة العبرية زوبعة عن زيارة سرية قام بها محمد البرادعي (نائب عدلي منصور) إلى الكيان الصهيوني، ما دفع "الأهرام" لنشر تصريح للمستشار الرئاسي، مصطفى حجازي، يقول فيه "لا أتصور أن ما نشرته الصحف عن زيارة البرادعي لإسرائيل صحيح". وطالبت وقتها ببيان رسمي من الدكتور البرادعي ينهي هذه الزوبعة، خصوصاً أنه كانت قد مضت 24 ساعة على نشر الخبر منسوباً لإذاعة الكيان الصهيونى، من دون أن يصدر تكذيبٌ أو نفى، ما أبقى الأمر ملفتاً وباعثاً على القلق، ودافعاً للربط بين الحفاوة الإسرائيلية غير المسبوقة بانقلاب 30 يونيو وتسريب الزيارة السرية الغامضة التى امتدت خمس ساعات، وضمت شخصية عسكرية حسب زعم الأخبار المنشورة منسوبة لوسائل الإعلام الإسرائيلية.
وأتذكّر في بدايات اشتباك البرادعي مع الحالة المصرية، وتحديداً في أبريل/ نيسان 2010 أن مواقع فلسطينية احتفت بتصريحاتٍ، اعتبرت في ذلك الوقت مدوية، للدكتور محمد البرادعي عن المقاومة الفلسطينية، ودعمه لها، غير أن تكذيباً صدر عن مصادر محيطة به نفى تماماً إدلاءه بهذه التصريحات، الأمر الذي سبب إحباطاً لدى كثيرين، فكتبت وقتها عن "أجمل أكاذيب البرادعي"، معترفاً بأنني كنت على وشك الدخول فى نوبة تصفيق حاد وهتاف صارخ للدكتور محمد البرادعى، على تصريحاته الناصعة بشأن دعمه الكامل للمقاومة الفلسطينية، وذهابه إلى أن عملية السلام ليست أكثر من نكتةٍ سخيفةٍ يتلهى بها العرب منذ عشرين عاما.
ما إن قرأت هذا الكلام الرائع على لسان البرادعي، نقلا عن موقع فلسطيني، حتى داهمتنى حالة من الإحساس بالأسف والأسى، لأنني أسأت الظن بالرجل، وتجرأت يوماً على طرح أسئلة عليه لاستجلاء موقفه من قضية الصراع العربى الإسرائيلي، ورؤيته لقضية فلسطين، وهى الأسئلة التي غضب مني قراء وأصدقاء أعزاء، لأننى طرحتها على الرجل، في ذلك الوقت المبكّر.
وقبل أن أبادر بالاعتذار، باغتنى تكذيب مصادر في حملة البرادعي كل ما سبق جملةً وتفصيلا، جاء فيه إن البرادعي لم يتحدث عن القضية الفلسطينية، ولا عن المقاومة، ولا عن عملية السلام أو الجدار الفولاذي، بل إنه لم يتحدث من الأصل مع مواقع فلسطينية، وفقا لشقيقه علي البرادعي الذي قال بوضوح وحسم: "الحوار مختلق".
كانت المنتديات الفلسطينية قد تفاعلت بشكلٍ مذهلٍ مع تصريحات البرادعي التي صنعت له شعبيةً هائلةً خارج حدود مصر، وأعطت حملته زخماً كبيراً، حيث ذهب كثير من المعلقين على كلامه إلى أن هذا الخطاب يضع الدكتور البرادعي مباشرةً على رأس معسكر الممانعة العربية، بل إن الخيال شطح بأحدهم إلى القول إن "مصر مع البرادعي ستنضم لحلف تركيا إيران سوريا قطر، وستكون أكبر ضربة لإسرائيل على حدودها. أتمنى له النجاح، وأتمنى من شعب مصر أن يقف معه، وألا يضيع هذه الفرصة في هذا التوقيت".
وكان أكثر ما لفت نظري، في ذلك الوقت، هذا الحسم والإصرار من حملة البرادعي على نفي ما ورد على لسانه وتكذيبه، وكأنه جاء بقول معيبٍ أو صادم لمشاعر الجماهير لا سمح الله، على الرغم من أنه لو صدر هذا الحديث عن البرادعي لكانت جماهيريته قد بلغت عنان السماء، لأنه كان بذلك سيضع يده على العصب الحساس، ويلمس وجدان الجماهير من الباب الكبير.
بعد ست سنوات من تلك الواقعة يأتي تشخيص الدكتور البرادعي لانعكاسات "كامب ديفيد" على مصر، داخلياً وخارجياً، وأظنه غير مسبوقٍ في جملة أطروحات الرجل، منذ خاض غمار السياسة، غير أن في الحوار، وأصدائه، أشياء أخرى تستحق التوقف عندها، لاحقاً.