الصحافة والحياة الخاصة للأشخاص

28 سبتمبر 2016

صحف ومجلات مغربية في الرباط (21 ديسمبر/2006/فرانس برس)

+ الخط -
سقطت بعض وسائل الإعلام المغربية في المحظور، عند تناولها الحياة الخاصة للأشخاص، بدعوى أن الأمر يتعلق بشخصياتٍ عموميةٍ. وبالتالي، من حق الصحافة أن تقتحم المجال الخاص لهؤلاء.
ما بين الصحافة والحياة الخاصة للأشخاص خط رفيع اسمه أخلاق المهنة، ومسؤولية الصحفي وواجبه، ويخل صحفيون كثيرون بأخلاق مهنتهم، ويستحضر قليل منهم مسؤوليتهم وواجبهم عندما يخوضون في الحياة الخاصة للآخرين.
موجب هذا الكلام، هو "النقاش" الذي يُثار في المغرب، بين الفينة والأخرى، كلما اقتحمت "صاحبة الجلالة" المملكة الخاصة بحياة الآخرين، وقد تكرّرت الحوادث، في الفترة الأخيرة، حتى أصبح لها من يدافعون عنها داخل مهنة المتاعب، بدعوى أن من حق الصحفي اقتحام المجال الخاص للأشخاص الذين يكتب عنهم، خصوصاً إذا تعلق الأمر بشخصياتٍ عمومية.
مع الأسف، يغلب على "النقاش" (أضع الكلمة بين قوسين لتحفظي على مستواه) المطروح اليوم في المغرب الطابع السياسي، ويبتعد عن قواعد المهنة، وما تفرضه أخلاقها وتقاليدها المتعارف عليها عالميا. ففي الفترة الأخيرة، انتشرت في الصحافة المغربية عدة "قصص"، موضوعها هو الحياة الخاصة لشخصياتٍ عمومية، سواء تعلق الأمر بمسؤولين أو بسياسيين، أو فقط بشخصياتٍ عمومية، يتم تعريض حياتهم الخاصة لـ "النهش" و"الهتك" و"التشويه" و"التشهير" و"القذف".. وبدلاً من أن تكون الصحافة "التقليدية"، وخصوصاً "المكتوبة" و"الرقمية"، مرجعيةً في الحرص على احترام أخلاق المهنة، فإن كثيراً منها، خصوصاَ المقربة من بعض دوائر السلطة في المغرب، أصبحت تُجاري رواد المواقع الاجتماعية في نشر "الإشاعات"، وتعتمد عليها كـ "مصادر" لقصصها التي تنتهك حرمة الحياة الخاصة للآخرين.
وعندما يُثار "النقاش" حول ضرورة احترام أخلاق المهنة، والالتزام بتقاليدها، نجد من يقف مدافعاً عن "حرية" هذا النوع من "الصحافة"، بدعوى أن الصحافة العالمية، وفي الدول الديمقراطية، تتناول "الحياة الخاصة" للآخرين، عندما يتعلق الأمر بشخصياتٍ عموميةٍ أو بالمال العام. وغالباً ما يتذرع أصحاب هذا الرأي بقضايا يعتبرونها مماثلةً لتبرير الخوض في أعراض الناس، وهم هنا مثل شاهد الزور، لأن لا علاقة لتلك القضايا بما راج عن مسؤولين وسياسيين وشخصياتٍ عمومية مغربية.

أول قضية يتذّرع بها هؤلاء هي قضية المدير السابق لصندوق النقد الدولي، ستراوس كان، والحالة هنا أنها تتعلق بجريمة اغتصابٍ، يعاقب عليها القانون، والضحية هي من اشتكت الجاني للشرطة. ويورد المدافعون عن خرق "الحياة الخاصة" للشخصيات العمومية قضية الرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون، والمتدربة في البيت الأبيض، مونيكا لوينسكي، والتي كشفتها صديقة الأخيرة عندما سربت للصحافة تسجيلات المكالمات التي كانت تجري بينها وبين مونيكا التي كانت تثق فيها، وحكت لها كل شيء عن علاقتها برئيسها. وعندما تناولت الصحافة الأميركية تلك القضية، بعد أن تأكّدت من صحة التسجيلات، فعلت ذلك انطلاقا مما تمليه عليها مدوّنة آداب المهنة التي يخضع لها الصحافيون الأميركيون، والتي تقول: "لا يمكن المسّ بالحياة الخاصة لأي كان، إلا في حال تبريره بمصلحة عامة طاغية". وفي هذه القضية، وقفت الصحافة الأميركية في صف الدفاع عن المصلحة العامة، وأجبرت الرئيس على الاعتراف بالخطأ، والاعتذار أمام الشعب عن خطئه.
قضية أخرى يبرّر بها هؤلاء "الصحافيون" حريتهم في التطاول على الحياة الخاصة للآخرين، هي قضية الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، وصديقته المفترضة. وكانت مجرّد تسريب تناولته بعض صحف الفضائح وصحافة "الباباراتزي" التي استرقت صورة الرئيس، وهو في طريقه إلى ما يُفترض أنه بيت عشيقته، لكن الصحافة الفرنسية الجادّة لم تلتفت إلى هذه القضية، لأنه ليس من عرف الصحافة الفرنسية وتقاليدها الخوض في الحياة الخاصة للناس، حتى لو كانوا شخصيات عمومية.. بل هناك من الصحافيين الفرنسيين من كتب يدين الممارسات غير المهنية وغير الأخلاقية للصحافيين ووسائل الإعلام التي تناولت القضية.
أما الدفع بأن الأمر يتعلق بالمال العام، وبالتالي من واجب الصحافة أن تحرص على كيفية صرفه، فهذا تبريرٌ آخر غير مقنع، ليس فقط لأنه لا تهمة من دون دليل، والواقع أن ما نشرته الصحافة المغربية بخصوص القضايا التي تطاولت فيها على الحياة الخاصة لشخصيات عموميةٍ، واتهمتها بتبذير المال العام، لم تستند فيه إلى دليل مادي واحد، يزكّي اتهاماتها، وإنما أيضاً لأنه لا يمكن أن تتدخل الصحافة في حرية صرف الأشخاص أموالهم، بدعوى أنهم شخصيات عمومية! فكل موظفي الدولة يتلقون رواتبهم من المال العام، فهل يجب أن نحاسب كل موظفٍ على كيفية صرفه راتبه، لأن مصدره من المال العام؟
بقي شيء مهم وأساسي، هو أننا، في أغلب القصص التي راجت أخيراً، عن الحياة الخاصة لشخصياتٍ عمومية مغربية، نحن أمام إشاعات و"فذلكة" بنيت على "وشاياتٍ" و"تسريباتٍ"، لا أحد يعرف مصادرها سوى أصحابها. وفي أحسن الحالات، أمام "محاضر شرطة" يصعب تصديق رواياتها.. وهنا، تكمن خطورة هذه "الصحافة" التي تنتهك أعراض الناس في خرق واضح وبَيِّنٍ لأخلاق المهنة وأعرافها وتقاليدها، ولا يمكن أن تصنّف مثل هذه الكتابات إلا تحت عنواني القذف والتشهير، وهما من جرائم يعاقب عليها القانون.
أما من يدّعون أن من واجب الصحافة أن تحترم الشفافية، فهذا حقٌّ يراد به باطل، لأنه لا يمكن أن تتحوّل الشفافية الكاملة إلى نوع من "الاستبداد" الذي يعطي للصحفي الحق للدسّ بأنفه في حياة الناس الخاصة. على الصحافيين أن يعرفوا كيف يحموا مهنتهم باحترام أخلاقها، فليس كل صورة أو فيديو أو تسريب صالحا للنشر بدعوى ممارسة الشفافية وحرية النشر، والصحافيون الذين يدافعون عن حريتهم في اقتحام الحياة الخاصة للآخرين باسم الحرية هم أول من يضع هذه الحرية في خطر.
الحالة الوحيدة التي يمكن للصحافي أن يدافع فيها عن اقتحامه الحياة الخاصة لشخصيات عمومية هي عندما يكون هناك خرق للقانون. لكن، عليه أولاً أن يثبت وجود ذلك الخرق. وعليه ثانيا أن يحترم قرينة البراءة، لأن الصحافي ليس مدّعياً عاماً، وليس قاضيا.
عندما نسمح، نحن الصحافيين، بخرق قواعد مهنتنا، والدوس على أخلاقها، نتحول إلى مجرد موظفين في حملة علاقات عامة، وهذه من أسوأ أنواع الصحافة التي تنتشر اليوم في العالم، إنها "صحافة العلاقات العامة".

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).