"أحلام هند وكاميليا"

29 يوليو 2016

نجلاء فتحي وعايدة رياض في "أحلام هند وكاميليا"

+ الخط -
لو لم يصنع محمد خان غير "أحلام هند وكاميليا" (1988)، لكفاه هذا الفيلم في وضع اسمه واحداً من أعلام السينما العالمية (نعم العالمية). وأظنه صحيحاً أنّ هذا العمل اللافت في مسار السينما المصرية أحبّ أفلامه إليه، ولا سيما أن خان نفسه هو من كتب السيناريو وقصة الفيلم، وقد ذكر، في إحدى مقالات كتابه "مخرج على الطريق" (القاهرة، 2015)، إن خادمةً كانت مربيةً له في صغره، اسمها هند، هي التي أوحت له فكرة الفيلم الذي تخصّ وقائعُه خادمتين في المنازل، ولصاً طريفاً في حارة مصريّة شعبيّة. وكتب خان إنه أراد جمع فاتن حمامة وسعاد حسني في شريطه هذا، إلا أن قلة حماس الأخيرة لدورها إحدى الخادمتين الصديقتين جعله يُعرض عن محاورة فاتن حمامة بأمره. كان ذلك قبل أن تصير نجلاء فتحي، شفاها الله ومتّعها بالصحة، نجمة الفيلم، فأدّت دورها الاستثنائي الشهير فيه، والذي نالت عنه جائزة أحسن ممثلةٍ في مهرجان طشقند. كما أبدعت زميلتها، عايدة رياض، في دورها الذي تكامل مع الطاقة التمثيلية الفريدة لنجلاء فتحي، فكانتا خادمتيْن في المنازل، في ظروفٍ معيشيةٍ مطحونةٍ اجتماعياً، وفي بيئةٍ من القهر والحرمان العاطفي. أما أحمد زكي، والذي عمل في ستةٍ من أفلام محمد خان، ففي الوسع الزّعم، هنا، أنه تفوّق، في دوره في هذا الفيلم البديع، باقتدارٍ بالغ، فزادت نجوميته لمعاناً.
ولمّا كان صحيحاً أن أغلب أفلام محمد خان، الواحدة والعشرين، حقّقت المعادلة المشتهاة، رضى الجمهور ورضى نقاد السينما، أي الجماهيرية الشعبية وتحقيق الحرفيّة الفنية، التجريبية المغامرة أحياناً، فإن "أحلام هند وكاميليا" هو المثال الأوضح في هذا الأمر. ومع وفاء المخرج الذي خطفه الموت، الثلاثاء الماضي، لنزوعه إلى الخط الكلاسيكي لمسار القصة في أفلامه، ومع ميله المعلوم، في سيرته الإبداعية، إلى سينما الشخصيات، لا الحكايات، فإنه، في هذا العمل، وازى هذيْن الأمرين، وغيرهما من خياراته الفنية الحاضرة في أفلامه، مع صنع اللقطات التي تمكّن فيها من تظهير جوانيّات شخصياته ودواخلها على الشاشة، فأحدثَ تعاطفاً وفيراً من المشاهد تجاه ما يراه، من دون السقوط في الميلودراميات الشعبية والشعبوية (كان محمد خان يسخر كثيراً من السينما الهندية إيّاها). وذلك في إيقاعٍ سار عليه الفيلم، اعتنى بتفاصيل الأمكنة، في الأزقة والبيوت المتواضعة والحارات والشوارع. وفي الأثناء، ساهمت موسيقى عمّار الشريعي بإشاعة الإيحاءات التي أراد محمد خان أن يرسلها، أو يعبّر عنها، أو ربما يصدم مشاهد الفيلم بها، فصار ممكناً أن يُحسب "أحلام هند وكاميليا" سيمفونيةً شفّافة، تلتقي فيها الأحلام المشتهاة وأحزان الحال المعيش، وتتقاطع فيها الإحباطات الثقيلة مع الأفراح الصغيرة، وكذلك البؤس الاجتماعي مع شهوات الذات وأشواقها. تكامُل هذا كله هو ما صنع لهذا الفيلم الذي لا يُنسى مطرحه الخاص في سينما "الواقعية الجديدة" التي كتب كثيرون عن محمد خان واحداً من أعلامها في السينما المصرية.
يقع الفيلم الذي تنشغل به هذه الكلمات في منتصف مسار محمد خان الاحترافي، والذي بدأ في "ضربة شمس" (1978). ومع سابقيه "زوجة رجل مهم" (1988) و"عودة مواطن" (1986)، يمكن حسبانه المنعطف الذي أخذ المخرج الكبير إلى اختباراتٍ أخرى لملكاته وقدراته. وبكثيرٍ من الحذر، أكتب، هنا، إن التجلي البديع في أفلامه الثلاثة هذه لم يتحقّق تماماً في أعماله اللاحقة، والتي راح فيها يستكشف صيغاً تعبيرية (مشهديةً طبعاً) لحساسياتٍ جديدة طرأت في المزاج العام، الشعبي والنقدي، غير أنه ظلّ محافظاً على ولعه بأن تكون التفاصيل الإنسانية البسيطة مشاغله الأولى دائماً. .. كان حلم الخادمتين الصديقتين، هند وكاميليا، أن يريا البحر. ولمّا عثرا على الجنيهات التي كان قد سرقها خطيب إحداهما، السجين في نهايات الفيلم (أحمد زكي)، تذهبان إلى الإسكندرية ليشاهدا البحر... هناك تصبحان ضحية سائق التاكسي السارق، ثم ينتهي الفيلم بمشهد البحر أمامهما .. وأمامنا.


معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.